--------------- - - -

Aug 7, 2012

رحلتنا إلى شمال إسبانيا أو على خطى دون بيلايو

تسيرُ السيارة بسرعة 128 كيلومتر في الساعة، نحنُ في طريق العودة من شمال إسبانيا الأخضر، نعودُ من كنتابريا و أستورياس بعد رحلة امتدت لأربع أيام، حيثُ انطلقنا من مدريد يوم الجمعة 27 جويلية 2012، تركناها و الشمس الحارقة تحولُ نهاية الطريق إلى سراب من الماء، ذلك السرابُ الذي تبعناهُ    و نحنُ في طريقنا إلى بورغوس، نسيرُ على درب المطرودين من اليهود و الموريسكيين، الذين اختاروا الطريق البري نحو فرنسا، فسُمح لهم بحمل أمتعتهم حتى هذه المدينة، ثم الاحتفاظ من هناك فقط بما يساوي مصاريف السفر.
بورغوس مدينة جميلة، فخورة بكنيسة سانتا ماريا، ذات المعمار القوطي، و التي يعودُ تاريخ إنشائها إلى سنة 1221م حيث كانت نهاية الأشغال بعد ما يقارب الأربعين سنة، كنيسة التي حرنا و حار المؤرخون في تحليل رموزها الغريبة، الساحرة و السرية.
كنيسة سانتا ماريا
تركنا بورغوس و رائنا بعد جولة امتدت لبضع ساعات، مواصلين طريقنا نحو الشمال، حيث مررنا بمدينة ليرما التي لعب دوقها دورًا حاسمًا في عملية طرد الموريسكيين، مدينة كان يُراد لها أن تُصبح عاصمة البلاد، فأنشأ بها عديد البنايات و القصور الضخمة، لكن ربما لعنة هؤلاء المطرودين أو إحدى اللعنات الأخرى قد نزلت بالمدينة لتبقى مُجرد مشروع غير مُكتمل، و مكانًا كلما مر أحد الأسبان به يقول: "هناك كانت ستكونُ عاصمتُنا".
عندما بدأ ذلك السرابُ الذي تبعناهُ طوال الطريق يختفي، كان المشهد الطبيعي يتحول من الأحمر الأجوري و هو اللون الذي يغلب على التربة، و الأصفر لون حقول الحبوب و الشعير الشاسعة إلى الأخضر الذي يمثل الغابات و الجبال.
بعد هذه الرحلة الطويلة وصلنا إلى فندقنا الريفي الصغير المسمى "فوندا ديل كارس"، الواقع على وادي كارس، المشهور بسمك السلمون، أسفل أحد جبال "قمم أوروبا"، في منطقة حدودية بين مقاطعتي كنتابريا و أستورياس.
موقع الفندق
وادي كارس
زرنا العديد من المواقع: الجبل، النهر و البحر، عظمة الطبيعة و إصرار الإنسان الذي يظهر في قُدرته على العيش في أقصى المناطق النائية، رُبما تبدو العديد من الأشياء بالنسبة إلينا اليوم طبيعية، لكنها في الواقع جملة من المُعجزات، تلك الجسور التي تقطع أكبر الأنهار أو الطرقات الحلزونية التي تتلوى إلى أعلى الجبل، و الأنفاق التي تشقهُ غير أبهة بآلاف السنوات الجيولوجية، أو عربة "التيليفيريك" التي تحملنا إلى قمة أحد جبال "قمم آوروبا".

عربة التيليفيريك تدخل وسط السحاب في طريقها إلى أعلى الجبل
الطبيعة و كثيرٌ من التاريخ الذي قادنا إلى كنيسة "سانتا ماريا دي ليبانيا"، التي تعود إلى القرن العاشر،  و التي أنشأها مجموعة من المسيحيين المُستعربين، أي الذين غادروا المناطق التي سيطر عليها المسلمون، بعد سنوات عديدة من التعايش، فحملوا معهم ثقافة الجنوب المُسلم، و هو ما يظهر في هذه الكنيسة الصغيرة في المزج بين الشكل المعماري القوطي و الإسلامي الذي يُشبهُ كثيرًا ذلك المستعمل في المساجد، خصوصًا في شكل الأقواس.
كنيسة سانتا ماريا دي ليبانيا
ثراء المنطقة التاريخي جعلنا نُخصص أحد أيام رحلتنا إلى عصر ما قبل التاريخ حيثُ زرنا موقعين: الأول يقع في قمم أحد الجبال، حيثُ يوجد على أحد الصخور الكبيرة مجموعة من المنحوتات و الصور، التي تعود كما أخبرنا دليلنا إلى أربعة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح، أما الثاني فهو عبارة عن كهف ضخم واقع أسفل أحد الجبال و يُطل على البحر، يسمي "كهف البيندال"، فبالإضافة إلى رسوم ما قبل التاريخ المتعددة به، فأن ما يميزهُ ذلك الرسم لحيوان الماموث، و الذي كما أخبرتنا دليلتنا يُعتبر الثاني من نوعه في كامل شبه الجزيرة الأيبيرية.
مدخل كهف البيندال
لم تكُن زيارتنا لشمال إسبانيا، و بالتحديد أستورياس أن تمُر دون أن نتبع أثار دُون بيلايو، "قاهر الفاتحين"، أثار وجدناها في ذلك الكهف الذي يُقالُ أنهُ انتهى على أبوابه الفتح الإسلامي، أين قال الفاتحون قولتهم الشهيرة بعد معركة كوفادونخا "ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم"، أمام المقاومة الكبيرة التي أظهرها هذا القوطي  الذي أستطاع أن يُنشأ مملكة أستورياس التي قادت راية المُقاومة أو "الريكونكيستا"، حتى أن المقولة التي يُرددها العديد من الإستوريين و الأسبان في شكل تندر هي: "إسبانيا هي أستورياس أما الباقي فهي أراضي مُستردة".
مدخل الكهف الذي يقالُ أن دون بيلايو قاد منهُ المقاومة ضد الفاتحين المُسلمين
تمثال دون بيلايو
بين الطبيعة و التاريخ و الرفقة الجيدة الكثير من المزاح، فعن سبب توقف الفتح الإسلامي هنا؟ تكونُ الإجابة بأن الطقس البارد و المشهد الطبيعي الشديد الخُضرة لم يوافق مزاج الفاتحين، المُتعودين على الحرارة  و الطبيعة القاحلة، أما البحث العلمي فيمكن أن يفترض أن هؤلاء و أمام المقاومة الواسعة التي لقوها، لم يهتموا بفتح منطقة لم تُمثل لهم أي قيمة إستراتجية أو اقتصادية، منطقة قليلة عدد السكان الذين كان يُمكن أن يدفعوا الجزية.
في طريق العودة مررنا بمدينة أوفيادو العظيمة، عاصمة مُقاطعة أستورياس، حيثُ زرنا العديد من المعالم بالمدينة، التي كان من بينها كنيسة سان سالفادور ذات المعمار القوطي، و الشبيهة كثيرًا بكنيسة بورغوس، كذلك كنيستي سان جوليان دي لوس برادوس و سان ميكال دي لينيو الذين يتميزان بذلك المعمار الروماني الفريد الذين يعودان إلى النصف الأول من القرن التاسع.
وصلت درجة الحرارة في عداد السيارة إلى ثلاث و ثلاثين درجة مئوية، بعد أن كانت عند انطلاقنا لا تتجاوز الثمانية عشرة، قال صديقي و نحنُ نعبرُ المنطقة الشمالية من مدينة مدريد: هنا يسكنُ علية القوم و أثريائهم من فنانين و سياسيين و رجال أعمال و غيرهم...، فأجبتُ: لماذا دائمًا يقطنُوا الأثرياء في الشمال؟ فأجاب صديقي، لم يكُن الحال دائمًا هكذا، فالحمراءُ، و غرناطةُ و قرطبةُ و أشبيليةُ في الجنوب...     
بعض المشاهد الطبيعية المختلفة من مقاطعتي أستورياس و كنتبريا
30/07/2012
ملاحظة: الصور من حقوق المؤلف، لا يمكن إعادة إستخدامها إلا بإذن مُسبق

0 commentaires :

Post a Comment

Copyright © Los Moriscos De Túnez الموريسكيون في تونس | Powered by Blogger

Design by Anders Noren | Blogger Theme by NewBloggerThemes.com