صورة من العرض |
أنه "مسرح روميه"، الذي يقعُ في وسط مدينة
مُرسيه القديمة، غير بعيد عن كنيسة سانتا ماريا، التي تقفُ صومعتها الضخمة شامخةً
كمنارة، أهتدي بها كلما ضعتُ و أنا أتجول في أزقة المدينة. مسرح جميل، يعود إلى
أكثر من مئة و خمسين سنة، السقف مُزين برسوم نباتية و سماء زرقاء و بيضاء، أما
المقاعد فذات لون أحمر و جوانب خشبية مُذهبة.
بعد بحث قصير عن المقعد رقم ثمانية، في الفئة
الاقتصادية، جلستُ في مكاني، قبل أن يبدأ العرض جُلتُ بناظري تقريبًا في كُل
المكان، لا أبحثُ عن شيء مُعين، بقدر ما كنتُ أُريدُ أن أعرف أي جمهور يُمكن أن
يستقطب هذا المسرح و هذا العرض بالذات، جلس بجانبي شيخ ذو وقار، جماعة من الشبان و
الشابات في الجهة المُقابلة، أشخاص يبدو من لباسهم و من السيجارة الفاخرة التي
رأيتهم يمسكونها في المدخل بأنهم من علية القوم، و أشخاص عاديين مثلي، أو أكثر
قليلاً، فلا أظن أنهُ في تلك الليلة من بين كل الحاضرين كان يوجد شخص واحد يحضر
لأول مرة عرضًا مسرحيًا مُحترفًا إلا أنا.
أُطفئت الأضواء بشكل مُتدرج، موسيقى خافته، انتظرتُ بأن
يخرج الممثلون من وراء الستار، فإذا برجل من بين الجمهور، يسير مُتثاقلاً نحو خشبة
المسرح، نحو الركن الذي كانت توجد فيه آلة الكونترباص، عدل الأوتار، ثم عزف
مقطوعةً موسيقية جميلة، يبدو أنها تعود إلى العصر الذهبي في إسبانيا، ثم خرجت شابة
في عتبة العشرين، و بدأت تقوم بحركات، تعبر عن بداية استعدادها للعرض المسرحي، ثم
شخص يبدو بدينًا بعض الشيء، ثم ممثل فارع الطول، يُمسك كتابًا أنشد يقول بلغة
إسبانية قديمة: "ذلك الزمن الخالد...زمن أمنديس الغالي و الفروسية
الجوالة..."، ثم صمت ليُسعفهُ الممثل البدين و الذي لم يكن إلا سانشو بانثا،
ببقية الكلام، هل نسي دون كيخوتي هذا العصر دورهُ؟
من الكُتيب الذي قُدم لي في المدخل أدركتُ بأن المسرحية
و إن كانت إعادة تمثيل لرواية ثرفنتس دون كيخوتي، فهي بشكل يتماهى مع روح هذا
العصر، مع إسبانيا 2012 أو إسبانيا الأزمة، التي ذُكر الحاضرون بنتائجها على الفن
من خلال الترفيع في القيمة المضافة في بداية العرض.
بين الهزل و
تعليقات سانشو بانثا و أمثلتهُ التي لا تنتهي، و حبهُ للأكل و للنبيذ الذي يمكن أن
يجعلهُ ينظر إلى السماء لأكثر من ربع ساعة و هو يحاول أن لا يترك أي قطرة في الجرة،
كما قالت أبنته، التي حضرت في المسرحية و غابت في الرواية، بتعليقاتها التي تبدو
في بعض الأحيان ساذجة و في أحيان أخرى حكيمة، و مُغامرات دون كيخوتي المُختلفة مع
طواحين الهواء، أو البغالين البنغاليين، مغامرة الأسود و كهف مونتسيرو، و الشخصيات
العديدة التي لقيها، كجندي معركة لبونت البائس، المتجول كعبد بين القسطنطنية، تونس
و قصة هروبه من الجزائر برفقة ثريا، أو موريسكي الريكوتي المطرود و المطارد، و
الذي أخبرهُ بأنهم يحبون إسبانيا أينما كانوا...، و بطبيعة الحال حُبه الخالد
لدولثينا أجمل السيدات في كل العصور، و من يمكن أن يقول غير ذلك؟ مرت المسرحيةبدون
أن أشعر بمرور الوقت، إلا و دون كيخوتي يُخبرُ سانشو بانثا بأنهُ كان يُريدُ أن
يصبح راعيًا و بأن يتخلى على كل ألقابه، "الفارس الحزين الطلعة"، "فارس
الأسود"، لكن ساعة الموت قد حلت يا صديقي سانشو.
موسيقى حزينة، دون كيخوتي يجلس ميتًا في ركن المسرح، أما
سانشو فقد وضع رأسهُ بين قدميه، فقط تقدمت أبنتهُ لتسألهُ عن أرث سيده، و خصوصًا
عن أسلحته و حصانه، ثم قالت لوالدها سلحني
في محاولة لأن تكون وريثة دون كيخوتي، أو أن تُعبر عن الأمل في محاربة الفقر و الظلم الاجتماعي السائد في هذا العصر، و رؤية
مخرج المسرحية لدون كيخوتي، ليس كمجنون بكتب الفروسية، كما صورهُ راهب القرية، و
إنما كشخصية تُعبر عن كل أولائك الذين يحلمون اليوم بالحرية و بمجتمع عادل، عن
الذين يخرجون اليوم في شوارع مدريد، لشبونة، أثينا، تونس، الرباط، موسكو، نيورك...
مُطالبين بالعدالة الاجتماعية، يُحاربون طواحين الهواء أو بنوك الطواحين، و مردة
هذا العصر أو الشركات المُتعددة الجنسيات، و سحرةً من كل الأنواع و الأشكال،
يسمونهم رجال سياسة...
دون كيخوتي الذي أفاق من موته لينهي الجدل بين سانشو و
أبنته، لم يمُت و لن يموت، زهرة الفروسية الجوالة، و أمل المُستضعفين...، وقف
شامخًا، فصمت الجميع، ليقول: "بهذا تنتهي كُل الكلمات، أنا دون كيخوتي دي
لامنتشا".
تصفيق حار، لا أُبالغُ أن قُلت أنهُ لم يتوقف على الأقل
لمدة خمس دقائق، و بإشارة من الممثل
الرئيسي الذي طلب أن يأخذ الكلمة، و بأن يُحيي الجمهور، و يهنئهم على هذا المسرح،
و يقول بأنهم هذه السنة في إسبانيا يحيون إحدى مئويات المسرح.
خرجتُ و أنا أشعرُ بلذة بالغة، كم أنا محظوظ بأن يكون
أول عرض مسرحي أحضرهُ في ذكرى إحدى مئويات المسرح، و بأن تكون أول مسرحية أحضرها
بهذا الجمال و الإبداع، و بأنها مسرحية دون كيخوتي، رائعة ميكال ثرفنتس، التي
تُرافقني تقريبًا كل ليلة منذ شهور عديدة، و التي أنا بصدد إنهاء مُطالعة صفحاتها
الأخيرة.
بهذه النشوة سرتُ في أزقة مدينة مرسية المبتلة و قد كان
المطر الخفيف يزدادُ جمالاً على ضوء الشارع، ثم عبرتُ الجسر الواقع على نهر شقورة أو
النهر الأبيض، و قد أزداد جمالاً بالأضواء المنعكسة، حتى وصلتُ إلى حيث أسكن و أنا
أقول: "أنا كذلك الكيخوتي، و بهذا تنتهي كُل الكلمات".
------------
Yo soy Don Quijote de la Mancha
Miguel de Cervantes. Dramaturgia de José Ramón Fernández
Actores: Fernando Soto - Almudena Ramos - José Luis López
Dirección: Luis Bermejo
Miguel de Cervantes. Dramaturgia de José Ramón Fernández
Actores: Fernando Soto - Almudena Ramos - José Luis López
Dirección: Luis Bermejo
0 commentaires :
Post a Comment