حسين بن عثمان
من أجل بياتريس حوارية مسرحية متصلة يتنامى سردها من فكرة محورية نوجزها فيما تعرض له ما تبقى من المسلمين على أرض الأندلس من تنكيل وشقاء بعد قرار طردهم سنة 1609م خلال تلك الحقبة التاريخية التي شهدت ديوان التحقيق، أو محاكم التفتيش ذائعة الصيت، بعنفها ووحشتها وفظاعاتها وإبادتها الدموية لكل من يشتبه في إسلامه أو في أصوله الإسلامية والعربية. ولا نخال علي اللواتي إلاّ من سلالة بعيدة لمسلمين أندلسيين أطردوا أو فرّوا من وطنهم في موجات متلاحقة بداية من سقوط غرناطة عام 1492 وظلّوا أكثر من قرن وربع في تيه وضياع تنكر لهم فيه الدهر وانعدمت أمامهم سبل الرجاء، وذلك فصل من الحضارة الإنسانية شديد السواد والقتامة دالت فيه الدول وتطاحنت الأديان والمعتقدات لتسحق الإنسان وتهرس لحمه وتذرو للريح طحين عظامه.
بشجن في اللغة وألم نبيل لا تأوّه فيه، وبمواقف كئيبة مضمّخة بالمفارقة والسخرية، وبحوار لا ثرثرة فيه ولا احتداد ولا صراخ، بما يجعل الوجع مبثوثا في التفاصيل غير المرئية، بل الموحى بها. من هناك تتقلّد الشخصيات المسرحية أدوارها اللغوية وتنهمك في تفاعلاتها القاسية التي تتستّر عليها وتلوذ بالتلميح والهمس والمخاتلة والخلسة، في معادل فني موضوعي لواقع تاريخي يحتّم الخفاء والتقيّة ومداهنة الإكراهات والظروف المليئة بالتهديد. إنها شخصيات معذبة تتحايل على بقاء يتهدده الترويع والتنكيل والفناء في كل حين.
يهدي علي اللواتي مسرحيته إلى "الشعب الذي ألغى وجوده التاريخ فولّى كأمس الدّابر ولم يبق من ماضيه غير آثار متلاشية وأخبار في بطون الكتب ينقّب عنها الباحثون ويجتمعون لها بين الحين والحين في المجامع الأكاديمية لتدارسها ببرود أدوات العقل وحياد مناهجه، كما يُتدارس انقراض حيوانات بائدة… إلى الذين ذاقوا فرادى وجماعات أبشع أساليب التنكيل وأبعده شذوذا عن الفطرة الإنسانية على يد مؤسسة قامعة تستند إلى سلطة سياسية عنصرية وتزعم أن من الحبّ المسيحي إزهاق الأرواح والعبث بالأجساد… إلى الأمة الموريسكية من أهل الأندلس وإلى جميع ضحايا ديوان التفتيش من بني الإنسان، عسى تبقى الذّكرى حيّة في وجدان الإنسانية ويظل الجرح نازفا في ذاكرتها الشقيّة".
ولعلّ فضل هذه المسرحية، إضافة إلى قيمتها الفنية العالية، محاولتها التذكير بذلك الجرح النازف في الذاكرة الشقية، الذي سيكون مدار هذا التقديم، بعد الإشارة المكثفة لما تنطوي عليه هذه من أحداث وملابسات وحيل فنية.
يتخذ المؤلف من لعبة الأقنعة تخطيطا لعمله. أقنعة الأدوار والوظائف والأمكنة والأسماء. مكان المسرحية هو خان "الماتامور الأحمر" للمسافرين، يقع على طريق جبلي منعزل يربط بين طريف ومدينة قادش بجنوب إسبانيا. أما الزمان فهو سنة 1634 في عهد "صاحب الجلالة فيليبي الرابع دي هابسبورغ" صاحب ممالك إسبانيا والمكسيك والبيرو وغيرها. شخصيات المسرحية الحاضرة على ركح الكتاب ثلاث عشرة شخصية، الثلاث الأولى هي الأكثر محورية: البنت بياتريس واسمها الأصلي زهراء، والأم إيزابيلا واسمها الأندلسي فاطمة، والأب أندرس واسم مولده أحمد بن محمد بن محمد ابن أبي بكر بن أبي القاسم البطليوسي ويتصل نسبه بالعرب القيسية… ثلاث شخصيات موريسكية لا تفضي بهوياتها دفعة واحدة لكنها تخلع أقنعتها الواحد إثر الآخر، نجدها تدير خانا تمتلكه وتقدم فيه المأكولات والمشروبات من خمور ونبيذ وما يتناسب معه من ترفيه للزبائن، وتعمل أثناء ذلك تلك الشخصيات ما في وسعها لإخفاء أصولها الإسلامية وطمس معالم هويتها الدينية. من ثمة تتفاعل الأحداث في المسرحية ويصل تطوّرها الدرامي إلى مثول هذه الشخصيات، مع شخصيات أخرى، أمام محكمة تفتيش افتراضية يرأسها "قاضي الأوبيريت" في ضرب من التمثيل المضاعف، حيث يؤدي الممثل دوره في المسرحية بصفته ممثلا لا بصفته يقوم بدور شخصية من الشخصيات، وهذه الحبكة الرشيقة في الفصول الأخيرة من المسرحية أضفت على النص عمقا ونأت به عن المحاكاة في أطوارها المعهودة.
يقول أحد شخصيات المسرحية مخاطبا قاضي التفتيش: "أنا ألفارو غنزاليس يا قاضي الأوبيريت!… ألا تكفي شناعة المأساة في الواقع حتى تطنب وتتفنّن في تمثيلها؟!" (…) يجيبه قاضي التفتيش: "آه يا صديق قلبي لقد ولجت عوالم غريبة فنسيت نفسي ووقفت على حقائق إنسانية مذهلة وأنا أستمع إلى هؤلاء النّاس وأحاورهم… ما أروع الفنّ!… سأكتب هذه المأساة في يوم ما وأرجو أن تطوف بمسارح العالم!" وحين يزيح الإسكيم الذي يغطي وجه القاضي فيظهر رأسه بلحية وشعر طويل يقول ألفارو غنزاليس: " (هذا) دييقو دي هينيستوزا ممثّل عظيم وأحد شعرائنا المسرحيين ولكن ديوان التفتيش ما يفتأ يلاحقه لأن مسرحياته متأثرة بمذهب إيراسموس الإنساني… لقد ترك الفن للاشتغال معنا في التهريب… إنه من رجالي الذين أعوّل على فنّهم لتضليل الجمارك بين إشبيلية وقادش"…
من المعلوم أن كل تلخيص لعمل ما هو انتهاك له وتشويه، والأمر يكون أفدح مع الأعمال الفنية. لكن من المفيد إزاء هذه المسرحية أن نحيطها ببعض المعطيات والمعلومات التي تضعها في سياقها التاريخي ومعناها الإنساني، للمساعدة في استعادة بعض ملامح عملية وحشية لم يشهد التاريخ البشري مثيلا لها من حيث الإكراه على العقيدة والتنصير العنيف لآلاف من أهل الأندلس المهزومين، المسلمون منهم واليهود، على قلة نسبتهم مقارنة بالمسلمين.
ألمحنا آنفا أننا لا نخال علي اللواتي كاتب هذه المسرحية إلاّ من أصول أندلسية بالنظر إلى أن تونس قد استقبلت مائة ألف موريسكي أوائل القرن السابع عشر الميلادي. ومائة ألف رقم كبير بمقاييس ذلك الزمن وبمقاييس وقتنا الحالي، سيورث لا محالة ذاكرته الدامية من الأسلاف للأخلاف عبر تعاقب الأجيال والسنين، ولعلّ علي اللواتي حفيد بعيد للموريسكيين شاء له الحظ أن يغمس ريشته في جرح أسلافه النازف ليصوغ مسرحية متوهجة بألوان لها حرارة الأرواح المستغيثة تنبعث من أجسام وقع التنكيل بها بلا شفقة ولا رحمة ولا مروءة.
نقرأ في موقع الأندلس للأخبار: " سقطت غرناطة –آخر قلاع المسلمين في إسبانيا- سنة 897هـ=1492م، وكان ذلك نذيرًا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التفتيش؛ لتطهير إسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان. وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم؛ فرارًا بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الإسبان لهم، وعادت إسبانيا إلى دينها القديم، أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العزل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض إسبانيا. ونشط ديوان التحقيق أو الديوان المقدس الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الموريسكيين المسلمين المتنصرين، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال خمينس عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم 22 ربيع أول 917هـ=20 يونيو 1511 يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثًا أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيرًا من المسلمين على قبول التنصر ملاذًا للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهدًا للكفر، وفر آخرون بدينهم، وكتبت نهايات متعددة لمأساة واحدة هي رحيل الإسلام عن الأندلس".
ولمزيد التوسّع والاستزادة حول المأساة الشاذة التي عاشها المريسكيون يمكن تصفح الكثير من المواقع على النت بمجرد كتابة اسمهم. ويهمنا هنا أن نصغي إلى تصريح لأكبر مختص عربي في تاريخ الموريسكيين الأستاذ المتميز عبد الجليل التميمي: "كنت أول باحث عربي يصل إلى الوثائق التركية في استانبول منذ 1965 وحيث تعلمت التركية واكتشفت في أرشيف تركيا أرصدة هائلة من المعلومات الأساسية التي تتناول تاريخ الإيالات العربية أثناء العصر العثماني، كما عثرت على وثائق كثيرة تهتم بالأندلس، ولا سيما منذ سقوط غرناطة عام 1492 وبقاء المسلمين 120 سنة إلى أن تم طردهم عام 1609.
وقد بينت هذه الوثائق الترابط السياسي بين الدولة العثمانية والموريسكيين، لذا قمنا بتوظيف هذه المعلومات ونظمنا 13 مؤتمرا حول هذا الملف الغائب تماما من العالم العربي والإسلامي، واهتممنا بفترة أواخر العرب المسلمين في الأندلس.. لأن المأساة التي عاشوها جديرة بأن يعرفها كل عربي ومسلم، وأعتقد أن ما عاناه هؤلاء الموريسكيون الأندلسيون، لم يشهد التاريخ البشري مثيلا له على الإطلاق، وقد حافظنا على الذاكرة الجماعية الموريسكية من خلال دعوة أهم الباحثين والخبراء الدوليين في هذا الاختصاص. ونحن نعمل على أساس أن هذا التراث الأندلسي هو تراثنا وحضارتنا. فقد خصصت مؤسسة التميمي أكثر من 600 دراسة أكاديمية جديدة حول هذا الموضوع ونشرت بالإسبانية والفرنسية، وقليل بالعربية".
سبق لمؤسسة التميمي البحثية الخاصة أن نظمت مؤتمرا حول الذكرى 500 لسقوط غرناطة في عام 1992 وستعمل هذه المؤسسة المجتهدة لعقد مؤتمر عالمي في سنة 2009 بمناسبة مرور 400 سنة على طرد العرب المسلمين، وسيكون من أهداف المؤتمر المطالبة برد الاعتبار للحضارة الإسلامية التي عمّرت إسبانية طيلة ثمانية قرون. وعن ذلك يقول الأستاذ التميمي "قدمت إسبانيا اعتذارا لليهود على طردهم ولم تقدم اعتذارا للعرب المسلمين الذين خلفوا حضارة فكرية ومعمارية خالدة ولا مثيل لها، وساهمت بشكل غير مباشر في تجديد النهضة الغربية.. والآن هناك 50 مليون سائح يأتون إلى إسبانيا بفضل هذا التراث المعماري الأندلسي. والسبب الآخر هو العمل على تضافر الجهود من أجل إبراز الجوانب الحضارية والإيجابية للوجود العربي في الأندلس ومطالبة السلط الإسبانية العليا تقديم اعتذار حضاري للمأساة التي ألحقت بالموريسكيين الأندلسيين، على غرار ما قام به رئيس جمهورية البرتغال. ولعل السبب في عدم تقديم اعتذار منذ مطالبتي بذلك من 16 سنة، هو أن العالم العربي والإسلامي، لا يهتم بهاته الإشكالية الحضارية الأساسية".
إنها دعوة تمثّل شفاء ممكنا لجروح حضارية يتعيّن أن تكفّ عن النزيف، وينبغي تعميمها (الدعوة) ومؤازرتها في سبيل تصفية التاريخ من أحقاده وضغائنه ليصفو الحاضر ويستوي المستقبل خاليا من العداوات الدينية والضمائر المحتقنة الممزقة.
بشجن في اللغة وألم نبيل لا تأوّه فيه، وبمواقف كئيبة مضمّخة بالمفارقة والسخرية، وبحوار لا ثرثرة فيه ولا احتداد ولا صراخ، بما يجعل الوجع مبثوثا في التفاصيل غير المرئية، بل الموحى بها. من هناك تتقلّد الشخصيات المسرحية أدوارها اللغوية وتنهمك في تفاعلاتها القاسية التي تتستّر عليها وتلوذ بالتلميح والهمس والمخاتلة والخلسة، في معادل فني موضوعي لواقع تاريخي يحتّم الخفاء والتقيّة ومداهنة الإكراهات والظروف المليئة بالتهديد. إنها شخصيات معذبة تتحايل على بقاء يتهدده الترويع والتنكيل والفناء في كل حين.
يهدي علي اللواتي مسرحيته إلى "الشعب الذي ألغى وجوده التاريخ فولّى كأمس الدّابر ولم يبق من ماضيه غير آثار متلاشية وأخبار في بطون الكتب ينقّب عنها الباحثون ويجتمعون لها بين الحين والحين في المجامع الأكاديمية لتدارسها ببرود أدوات العقل وحياد مناهجه، كما يُتدارس انقراض حيوانات بائدة… إلى الذين ذاقوا فرادى وجماعات أبشع أساليب التنكيل وأبعده شذوذا عن الفطرة الإنسانية على يد مؤسسة قامعة تستند إلى سلطة سياسية عنصرية وتزعم أن من الحبّ المسيحي إزهاق الأرواح والعبث بالأجساد… إلى الأمة الموريسكية من أهل الأندلس وإلى جميع ضحايا ديوان التفتيش من بني الإنسان، عسى تبقى الذّكرى حيّة في وجدان الإنسانية ويظل الجرح نازفا في ذاكرتها الشقيّة".
ولعلّ فضل هذه المسرحية، إضافة إلى قيمتها الفنية العالية، محاولتها التذكير بذلك الجرح النازف في الذاكرة الشقية، الذي سيكون مدار هذا التقديم، بعد الإشارة المكثفة لما تنطوي عليه هذه من أحداث وملابسات وحيل فنية.
يتخذ المؤلف من لعبة الأقنعة تخطيطا لعمله. أقنعة الأدوار والوظائف والأمكنة والأسماء. مكان المسرحية هو خان "الماتامور الأحمر" للمسافرين، يقع على طريق جبلي منعزل يربط بين طريف ومدينة قادش بجنوب إسبانيا. أما الزمان فهو سنة 1634 في عهد "صاحب الجلالة فيليبي الرابع دي هابسبورغ" صاحب ممالك إسبانيا والمكسيك والبيرو وغيرها. شخصيات المسرحية الحاضرة على ركح الكتاب ثلاث عشرة شخصية، الثلاث الأولى هي الأكثر محورية: البنت بياتريس واسمها الأصلي زهراء، والأم إيزابيلا واسمها الأندلسي فاطمة، والأب أندرس واسم مولده أحمد بن محمد بن محمد ابن أبي بكر بن أبي القاسم البطليوسي ويتصل نسبه بالعرب القيسية… ثلاث شخصيات موريسكية لا تفضي بهوياتها دفعة واحدة لكنها تخلع أقنعتها الواحد إثر الآخر، نجدها تدير خانا تمتلكه وتقدم فيه المأكولات والمشروبات من خمور ونبيذ وما يتناسب معه من ترفيه للزبائن، وتعمل أثناء ذلك تلك الشخصيات ما في وسعها لإخفاء أصولها الإسلامية وطمس معالم هويتها الدينية. من ثمة تتفاعل الأحداث في المسرحية ويصل تطوّرها الدرامي إلى مثول هذه الشخصيات، مع شخصيات أخرى، أمام محكمة تفتيش افتراضية يرأسها "قاضي الأوبيريت" في ضرب من التمثيل المضاعف، حيث يؤدي الممثل دوره في المسرحية بصفته ممثلا لا بصفته يقوم بدور شخصية من الشخصيات، وهذه الحبكة الرشيقة في الفصول الأخيرة من المسرحية أضفت على النص عمقا ونأت به عن المحاكاة في أطوارها المعهودة.
يقول أحد شخصيات المسرحية مخاطبا قاضي التفتيش: "أنا ألفارو غنزاليس يا قاضي الأوبيريت!… ألا تكفي شناعة المأساة في الواقع حتى تطنب وتتفنّن في تمثيلها؟!" (…) يجيبه قاضي التفتيش: "آه يا صديق قلبي لقد ولجت عوالم غريبة فنسيت نفسي ووقفت على حقائق إنسانية مذهلة وأنا أستمع إلى هؤلاء النّاس وأحاورهم… ما أروع الفنّ!… سأكتب هذه المأساة في يوم ما وأرجو أن تطوف بمسارح العالم!" وحين يزيح الإسكيم الذي يغطي وجه القاضي فيظهر رأسه بلحية وشعر طويل يقول ألفارو غنزاليس: " (هذا) دييقو دي هينيستوزا ممثّل عظيم وأحد شعرائنا المسرحيين ولكن ديوان التفتيش ما يفتأ يلاحقه لأن مسرحياته متأثرة بمذهب إيراسموس الإنساني… لقد ترك الفن للاشتغال معنا في التهريب… إنه من رجالي الذين أعوّل على فنّهم لتضليل الجمارك بين إشبيلية وقادش"…
من المعلوم أن كل تلخيص لعمل ما هو انتهاك له وتشويه، والأمر يكون أفدح مع الأعمال الفنية. لكن من المفيد إزاء هذه المسرحية أن نحيطها ببعض المعطيات والمعلومات التي تضعها في سياقها التاريخي ومعناها الإنساني، للمساعدة في استعادة بعض ملامح عملية وحشية لم يشهد التاريخ البشري مثيلا لها من حيث الإكراه على العقيدة والتنصير العنيف لآلاف من أهل الأندلس المهزومين، المسلمون منهم واليهود، على قلة نسبتهم مقارنة بالمسلمين.
ألمحنا آنفا أننا لا نخال علي اللواتي كاتب هذه المسرحية إلاّ من أصول أندلسية بالنظر إلى أن تونس قد استقبلت مائة ألف موريسكي أوائل القرن السابع عشر الميلادي. ومائة ألف رقم كبير بمقاييس ذلك الزمن وبمقاييس وقتنا الحالي، سيورث لا محالة ذاكرته الدامية من الأسلاف للأخلاف عبر تعاقب الأجيال والسنين، ولعلّ علي اللواتي حفيد بعيد للموريسكيين شاء له الحظ أن يغمس ريشته في جرح أسلافه النازف ليصوغ مسرحية متوهجة بألوان لها حرارة الأرواح المستغيثة تنبعث من أجسام وقع التنكيل بها بلا شفقة ولا رحمة ولا مروءة.
نقرأ في موقع الأندلس للأخبار: " سقطت غرناطة –آخر قلاع المسلمين في إسبانيا- سنة 897هـ=1492م، وكان ذلك نذيرًا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التفتيش؛ لتطهير إسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان. وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم؛ فرارًا بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الإسبان لهم، وعادت إسبانيا إلى دينها القديم، أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العزل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض إسبانيا. ونشط ديوان التحقيق أو الديوان المقدس الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الموريسكيين المسلمين المتنصرين، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال خمينس عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم 22 ربيع أول 917هـ=20 يونيو 1511 يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثًا أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيرًا من المسلمين على قبول التنصر ملاذًا للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهدًا للكفر، وفر آخرون بدينهم، وكتبت نهايات متعددة لمأساة واحدة هي رحيل الإسلام عن الأندلس".
ولمزيد التوسّع والاستزادة حول المأساة الشاذة التي عاشها المريسكيون يمكن تصفح الكثير من المواقع على النت بمجرد كتابة اسمهم. ويهمنا هنا أن نصغي إلى تصريح لأكبر مختص عربي في تاريخ الموريسكيين الأستاذ المتميز عبد الجليل التميمي: "كنت أول باحث عربي يصل إلى الوثائق التركية في استانبول منذ 1965 وحيث تعلمت التركية واكتشفت في أرشيف تركيا أرصدة هائلة من المعلومات الأساسية التي تتناول تاريخ الإيالات العربية أثناء العصر العثماني، كما عثرت على وثائق كثيرة تهتم بالأندلس، ولا سيما منذ سقوط غرناطة عام 1492 وبقاء المسلمين 120 سنة إلى أن تم طردهم عام 1609.
وقد بينت هذه الوثائق الترابط السياسي بين الدولة العثمانية والموريسكيين، لذا قمنا بتوظيف هذه المعلومات ونظمنا 13 مؤتمرا حول هذا الملف الغائب تماما من العالم العربي والإسلامي، واهتممنا بفترة أواخر العرب المسلمين في الأندلس.. لأن المأساة التي عاشوها جديرة بأن يعرفها كل عربي ومسلم، وأعتقد أن ما عاناه هؤلاء الموريسكيون الأندلسيون، لم يشهد التاريخ البشري مثيلا له على الإطلاق، وقد حافظنا على الذاكرة الجماعية الموريسكية من خلال دعوة أهم الباحثين والخبراء الدوليين في هذا الاختصاص. ونحن نعمل على أساس أن هذا التراث الأندلسي هو تراثنا وحضارتنا. فقد خصصت مؤسسة التميمي أكثر من 600 دراسة أكاديمية جديدة حول هذا الموضوع ونشرت بالإسبانية والفرنسية، وقليل بالعربية".
سبق لمؤسسة التميمي البحثية الخاصة أن نظمت مؤتمرا حول الذكرى 500 لسقوط غرناطة في عام 1992 وستعمل هذه المؤسسة المجتهدة لعقد مؤتمر عالمي في سنة 2009 بمناسبة مرور 400 سنة على طرد العرب المسلمين، وسيكون من أهداف المؤتمر المطالبة برد الاعتبار للحضارة الإسلامية التي عمّرت إسبانية طيلة ثمانية قرون. وعن ذلك يقول الأستاذ التميمي "قدمت إسبانيا اعتذارا لليهود على طردهم ولم تقدم اعتذارا للعرب المسلمين الذين خلفوا حضارة فكرية ومعمارية خالدة ولا مثيل لها، وساهمت بشكل غير مباشر في تجديد النهضة الغربية.. والآن هناك 50 مليون سائح يأتون إلى إسبانيا بفضل هذا التراث المعماري الأندلسي. والسبب الآخر هو العمل على تضافر الجهود من أجل إبراز الجوانب الحضارية والإيجابية للوجود العربي في الأندلس ومطالبة السلط الإسبانية العليا تقديم اعتذار حضاري للمأساة التي ألحقت بالموريسكيين الأندلسيين، على غرار ما قام به رئيس جمهورية البرتغال. ولعل السبب في عدم تقديم اعتذار منذ مطالبتي بذلك من 16 سنة، هو أن العالم العربي والإسلامي، لا يهتم بهاته الإشكالية الحضارية الأساسية".
إنها دعوة تمثّل شفاء ممكنا لجروح حضارية يتعيّن أن تكفّ عن النزيف، وينبغي تعميمها (الدعوة) ومؤازرتها في سبيل تصفية التاريخ من أحقاده وضغائنه ليصفو الحاضر ويستوي المستقبل خاليا من العداوات الدينية والضمائر المحتقنة الممزقة.
كونتراست للنشر، سوسة ـ تونس/ الطبعة الأولى أفريل 2007،
http://www.alawan.org/ المصدر
0 commentaires :
Post a Comment