محمد الباجي بن مامي
انطلاقا من الفترة الحفصية (1) عرفت مدينة تونس تأثيرات فنية وثقافية ومعمارية وحضارية مختلفة، أهمها على الإطلاق التأثيرات الأندلسية التي ما زال بعضها متواجدا إلى يومنا هذا. إلا أن هذه التأثيرات كانت مزدوجة، فهي أندلسية ومغربية على حد سواء لأنه من الصعب في غالب الأحيان الفصل بين التأثيرات الفنية الأندلسية من جهة، والمغربية من جهة أخرى، ذلك نظرا لتشابه هذين الفنين خلال تلك الفترة، إذ أدت العلاقة الوثيقة التي قامت بين المغرب والأندلس إلى انتشار الفن الأندلسي بالمغرب والعكس بالعكس(2) .
ويبدو أن هذه التأثيرات دخلت إفريقية مع قدوم الموحدين - ابتداء من النصف الثاني للقرن السادس للهجرة - أي عند قدوم عبد المؤمن بن علي سنة الأخماس (555هـ/1160م) - إلا أنها أصبحت أكثر وضوحا عند استيلاء أبي زكرياء الأول على الحكم سنة (625هـ/1227م - 647هـ/1249م). فقبل قدومه إلى إفريقية كان مؤسس الدولة الحفصية واليا على غربي الأندلس مما أدى إلى ارتباط العديد من الأندلسيين - وخصوصا منهم الإشبيليين - بأبي زكرياء. ويفيدنا العلامة عبد الرحمان ابن خلدون حول علاقة هؤلاء بأبي زكرياء، فيذكر بأنه: "كانت لأهل إشبيلية خصوصا من بين الأندلس، صلة بالأمير زكرياء بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غربي الأندلس"(3) .
ونتيجة لهذه العلاقة الوطيدة، أع 3، ص. 133.-155 صيف1997 تى الأندلسيون في كرات متتالية إلى مدينة تونس بداية من النصف الأول للقرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، ويبدو أن الدفعات الأولى لهؤلاء المهاجرين قدمت ابتداء من سقوط بلنسية في أيدي الإسبان سنة 636هـ/1238م أو ربما قبل ذلك ببضع سنوات. ومن بين من استوطن مدينة تونس آنذاك نذكر على سبيل المثال: أبا عبد الله ابن الابار(4) . ثم قدم عدد هام آخر عند سقوط إشبيلية أيضا في أيدي المسيحيين سنة 649هـ/1248م، وقد شجعهم ما وجدوه من الترحاب والمراعاة على الاتجاه إلى مدينة تونس، إذ بقي أبو زكرياء ثم خلفاؤه في الحكم، مرتبطين بالتقاليد الأندلسية. إلا أن عددهم تضاءل في القرن الثامن للهجرة / الرابع عشر الميلادي، لكن الأمور لم تبق على هذا النسق، إذ تجدد قدومهم في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وازداد خاصة بعد سقوط غرناطة.
ويرى أغلب المؤرخين أن جل هؤلاء المهاجرين كانوا من الأثرياء والعلماء(5) بينما تذهب أقلية أخرى إلى أن هؤلاء المهاجرين كانوا من جميع طبقات المجتمع الأندلسي(6) ، إلا أنه لدينا نص لابن سعيد - يرجع إلى سنة 721هـ/1321م - وهذا المؤلف الذي تولى مناصب سياسية مرموقة، كان أحد المهاجرين الأندلسيين، وما أتى به يؤيد ما ذهب إليه القسم الثاني من المؤرخين، إذ يذكر المصنف أن أبا زكرياء بنى معالم دينية وقصورا ضخمة، وأنه اهتم بالحدائق وزرع أشجار العنب على طريقة الأندلسيين وأن كل المهندسين هم أصيلي الأندلس، وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب الصنائع من بنائين ونجارين ودهانين الذين ساهموا في بناء هذه المعالم، وكذلك المشرفين على البساتين والحدائق إلخ ...
ويعلمنا نفس المؤلف أن المعالم التي بنيت آنذاك - أي في بداية القرن 8 هـ / 14 م - قد قام بتصميمها أندلسيون أو نقلوا تخطيطها عن معالم أخرى توجد في بلادهم.
كما أن المتمعن في الجزء السادس "للعبر" لابن خلدون يلاحظ فيه أنه رغم عدم الإشارة إلى وجود بعض الحرفيين وأرباب الصنائع وغيرهم من العامة للمهاجرين الأندلسيين، فإن إشارة هذا المصنف في العديد من المناسبات إلى تواجد جالية من شرقي الأندلس من غربيه بمدينة تونس وخاصة ذكره لوجود كتيبة من الجند متكونة من الأندلسيين ساهمت في الحروب الصليبية التي واجه خلالها المستنصر الحفصي ملك الإفرنجة لويس التاسع سنة 668هـ / 1270م(7) يدفعنا إلى ترجيح الرأي الثاني وإلى التأكيد على أنه كان يوجد خلال الهجرات الأولى إضافة إلى جماعة العلماء والأثرياء الذين ذكرت المصادر العديد من أسمائهم(8) من المهاجرين المنتمين إلى أهل الصنائع والحرف وغيرهم، ممن غضت عنهم المصادر الطرف ولم تذكر البتة. مع كل هذه المعطيات يجب
إضافة ما تمدنا به بعض شواهد القبور من معلومات(9) وهي التي ترجع إلى القرون السابعة والثامنة والتاسعة هجرية، والتي تفيدنا بمهن البعض من هؤلاء الأندلسيين الذين استوطنوا مدينة تونس. فقد تم العثور على أسماء بعض التجار والحرفيين وغيرهم.
لكن أهم دفعة وصلت إلى تونس، تمثلت في عدد كبير من المورسكيين - وهم مسلمو الأندلس الذين هربوا بدينهم من الاضطهاد المسيحي - ويبدو أن هؤلاء لم يجدوا نفس القبول بالجزائر وبدرجة أقل بالمغرب، إذ نهبهم الأعراب ولم يبق حتى ما يسدون به رمقهم(10) ولذلك، وبعد توقف بأحد هذين البلدين، توجه الكثير منهم في رحلة ثانية إلى البلاد التونسية(11) كما قدم عدد هام من أعضاء هذه الهجرة عن طريق فرنسا مرورا بمرسيليا حيث سلبت أموال جلهم. وهو ما تفيدنا به بعض وثائق الأرشيف الفرنسي (بمرسيليا).
ويعلمنا صاحب "المؤنس" (ابن أبي دينار) أنه "في سنة 1017هـ/1608م و1018هـ/1609م جاءت الأندلس من بلاد النصارى - نفاهم صاحب إسبانيا - وكانوا خلقا كثيرا فأوسع لهم عثمان داي في البلاد(12) وفرق ضعفاءهم على الناس وأذن لهم أن يعمروا حيث شاؤوا... واستوطنوا في عدة أماكن"(13) .
إلا أنه من المحتمل أن يوسف داي(14) لعب دورا هاما في مجال استيطانهم قبل أخذه السلطة، وذلك في مدة حكم عثمان داي(15) . وإن كان العديد من هؤلاء المهاجرين وزعوا على قرى ومدن بالشمال التونسي، فقد أبقى الأثرياء منهم وأهل الحرف - مثل المختصين في صنع الشاشية -(16) في مدينة تونس، كما بقي أيضا التجار والعلماء والمدرسين (ويذهب البعض إلى أن عددهم أثناء هذه الهجرة الأخيرة بلغ ثمانين ألف نسمة)(17) .
وكانت لكل هؤلاء خاصيتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ولباسهم وتصرفاتهم... فحملوا معهم ثقافتهم وأنواع فنونهم، وطرق بنائهم الخ... وقد كانت إذن اختصاصات هؤلاء المهاجرين مختلفة، فمنهم أصحاب الحرف من بنائين ونجارين وحدادين... ومنهم المثقفون والعلماء، ومنهم المهندسون والأطباء... لذا كان تأثيرهم في المجتمع مختلف الوجوه.
تواجد إذن الكثير من العلماء والمثقفين الذين أثروا في الحياة الثقافية، سواء كان ذلك أثناء الفترة لقدومهم، أو خلال الفترة الثانية - أي أثناء حكم عثمان داي - وهكذا مثلت الثقافة الأندلسية نخبة من العلماء البارزين، فعرفت المدينة بفضل هؤلاء ومن سواهم من الأفارقة في القرنين السابع والثامن الهجريين والنصف الأول من القرن التاسع هجري، نهضة علمية جعلت منها أحد أهم المراكز العلمية والثقافية والتعليمية بالمغرب الإسلامي، ومن الجزائر أن الأندلسيين مثلوا نواة هذه
النهضة. ومما لا شك فيه أن التطور الديموغرافي الداخلي الذي عرفته مدينة تونس خلال القرن السابع الهجري، وكذلك الوفود القادمة من المغرب الأقصى والجزائر وغيرهم، زادت في أعداد طلاب العلم. وقد قابلت هذه الظاهرة، مجيء مشايخ أندلسيين كانت لهم الإمكانية علميا أن يكونوا إطارات للتعليم، وقد كان عدد هؤلاء الشيوخ القادمين خلال هذه الفترة مرتفعا، وعثرنا على أسماء العديد منهم(18) الذين درسوا بمدارس مدينة تونس وبالجامع الأعظم وفي العديد من الأماكن الأخرى(19) . ويمكن هنا أن نسرد أسماء العشرات، أو قل المئات من أسماء هؤلاء الذين أتت بهم المصادر، لكن أهمهم على الإطلاق، من الذين أثروا في الحياة الفكرية والثقافية: المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، أحد أحفاد المهاجرين الأوائل(20) .
كما نرى من خلال ما يفيدنا به عبد الباسط بن خليل أهمية هؤلاء العلماء الأندلسيين المستقرين بتونس، وقد بهره محمد الخير المالقي بعلمه وأدبه (الذي ورد على تونس سنة 846هـ/1459م)وكذلك نفس الشيء بالنسبة للشاعر الأندلسي ابن رزين الخزرجي الأنصاري (21) وغيرهم كثير(22) .
وقد تخرج عليهم عدد هام من العلماء الأفارقة الذين بثوا بدورهم أسس الثقافة والعديد من المصنفات الأندلسية بالبلاد التونسية، ولو حاولنا الإطلاع على المصنفات التي كانت تدرس بأماكن التعليم بمدينة تونس خلال الفترة الحفصية وما بعدها، للاحظنا أن العديد منها، مؤلفات أندلسية، وأنها لم تكن تدرس قبل وفود الأندلسيين، والتي أدخلها معهم بعض هؤلاء المهاجرين.
وما يجب التأكيد عليه أيضا، طريقة التدريس التي أدخلها معهم العلماء الأندلسيون، والتي أكد عليها ابن خلدون في مقدمته.
كما نجد خلال الفترة العثمانية بعض أسماء علماء أندلسيين أو من أبناء أندلسيين، وهو دليل على قدوم نخبة من المثقفين خلال هجرة 1017هـ/1018م - 1609م(23) ومثلما اهتم الحفصيون ثم العثمانيون بتشييد المدارس لبث العلم. قام العنصر المهاجر الآخر - أي الأندلسيون - بنفس العمل. فلقد أنجزت منشآت ثقافية لتمكين الأندلسيين القاطنين خارج مدينة تونس من الالتحاق بمدرسة مخصصة لهم. أما الساكنون من بينهم في مدينة تونس فقد كان بإمكانهم الالتحاق بجامع الزيتونة، لذلك أسست المدرسة الأندلسية وخصصت لأبناء إخوانهم المهاجرين الذين لا يستطيعون الحصول على مسكن. وكان ذلك سنة 1034هـ/1625م(24) ويبدو أن يوسف داي شجعهم على بناء هذه المدرسة، ولم يكتف هؤلاء المهاجرون بتشييد هذه المدرسة، فمن بين مآثرهم الأخرى بناؤهم في أوائل القرن 11هـ/17م جامع سبحان الله(25) وربما نتج اختيار الأندلسيين على مكان المدرسة والجامع لقربه من موقع سكناهم، فقد استقر العديد منهم بباب قرطاجنة، وكذلك بنهج ترنجة الذي لا يبعد إلا مسافة صغيرة جدا عن موقعي المدرسة والجامع. لكن حكام البلاد - وخاصة السلاطين الأوائل - لم يكتفوا باستعمال الأندلسيين في ميدان الدراسة، بل استعملوا البعض منهم - كما لاحظنا بعد - للحد من التأثير الموحدي. ولذلك اهتم الكثير من الأندلسيين القادمين في الفترات الأولى بالسياسة، وبلغوا مناصب سياسية عالية، لكن إثر محاولة الكثير منهم التدخل في شؤون الدولة، ونتيجة لتعودهم التناحر على المناصب، فقد كان مآل البعض منهم القتل(26) .
وقد أفادنا ابن خلدون بأسماء الكثير ممن قتلوا من بين العلماء ووجهاء الأندلسيين إثر السعايات والوشايات اليومية التي كان يعرفها البلاط الحفصي(27) .
كان تأثير الأندلسيين إذن هاما جدا، ونتيجة لمحاولتهم الاستيلاء على المناصب السياسية التي كان مستحوذا عليها العنصر الموحدي فقد حاول أن يوقع بهم البعض من هؤلاء، فثاروا على المستنصر الحفصي سنة 648هـ/1250م لكن هزموا، وأدى هذا بالطبع إلى تقوية صف الأندلسيين.
ومما نلاحظه أيضا وجود بعض الأطباء من بين الأندلسيين المهاجرين إلى تونس، وقد لعبوا دورا هاما في تكوين نخبة من الأطباء بالبلاد، إذ أن أغلبهم الذين باشروا مهنتهم بتونس خلال الفترة الحفصية من أصيلي الأندلس أو صقلية. وتوصلنا من خلال المعلومات والأسماء التي وردت في المصادر إلى أن هذا العلم يتوارث أبا عن جد، وقد عثرنا على بعض شواهد القبور (أو مشاهد) تحتوي على أسماء أطباء أندلسيين عاشوا بتونس من بينهم "الحكيم أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الحكيم أبي الظفر غالب بن الحكيم عبد الله بن محمد غالب الفي المالقي المتوفي سنة 654هـ/1256م" وكذلك "الطبيب الماهر أبو زيد عبد الرحمان بن الشيخ الطبيب الماهر أبو عثمان سعيد الأنصاري الأندلسي، توفي سنة 872هـ/1467م"(28) .
كما تفيدنا بعض المصادر أنه ورد على تونس بعض الأطباء الأندلسيين الآخرين: فهذا أبو يعقوب يوسف بن محمد بن اندراس (المتوفى سنة 729هـ/1329م(29) قد درس الطب بمنزله، واخذ العلم عن أبيه، أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الأموي المعروف بابن اندراس المتوفى سنة (674هـ/1275م)(30) وهو أصيل مرسية. فأكثر الأطباء الذين باشروا مهنتهم بتونس هم إذن أصيلو الأندلس(31) وقد كونوا بدورهم العديد من الأطباء الأفارقة، الذين وردت أسماؤهم عرضا في المصنفات(32) .
التأثيرات الفنية والمعمارية
لم يقتصر إذن قدوم الأندلسيين على المثقفين والعلماء، بل وصلها أيضا - كما لا حظنا بعد - الكثير من المهندسين والعمال المختصين، فابن سعيد يفيدنا أن أبا زكرياء الأول مؤسس الدولة الحفصية بنى معالم دينية وقصورا هامة(33) وأنه اهتم بالحدائق، وزرع أشجار العنب على طريقة الأندلسيين، وأن كل المهندسين هم من أصيلي الأندلس، وكذلك نفس الشيء بالنسبة لأصحاب الصنائع من بنائين ونجارين ودهانين، والمشرفين على البساتين والحدائق إلخ... ويعلمنا نفس المؤلف أن المعالم التي بنيت آنذاك قد قام بتخطيطها أندلسيون، أو نقلوا تخطيطها على معالم أخرى توجد في بلادهم . وتواصل الاعتماد على المهندسين والعملة المختصين القادمين من الأندلس، فنحن نعلم مثلا أن المهندس ابن غالب الذي أشرف على بناء جامع يوسف داي ومدرسته سنة 1021هـ/1612م هو أندلسي الأصل وقد قام بأعمال ترميم هامة بجامع الزيتونة(34) . كما يذكر المنتصر بن أبي لحية المرابطي، أن العمال المختصين في البناء الذين بنوا زاوية سيدي حذيفة بأمر الوالي الصالح أبي الغيث القشاش كانوا من الأندلسيين(35) . ونتيجة لتواجد هذه اليد المختصة، وهؤلاء المهندسين الذين أتوا معهم بطرقهم في البناء، وبنوعية فنونهم، ظهرت تأثيرات أندلسية من الناحية الفنية والمعمارية خاصة - تواصل بها العمل منذ القرن السابع الهجري/ الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا، إذ وجد تمازج بين الفنين المعماريين: الإفريقي والأندلسي. وتمثل التأثير الأندلسي في عدة عناصر فنية، خصوصا منها النقوش الجصية التي أخذت أبعادا كبيرة انطلاقا من فترة بناء الجامع الموحدي بالقصبة (633هـ/1235م)، وتواصلت زخرفة جل المعالم بهذه النقوش الجصية والمتمثلة خاصة في الأشكال الهندسية والنباتية، كما أن من بين الصناعات الأخرى الهامة التي أدخلها الأندلسيون صناعة الزليج - وهو ما يطلق عليه في المشرق القشاني -(36) .
كما أثر الأندلسيون أيضا في العمل على الخشب - مثل السقوف والأبواب إلخ... وبلغ التأثير أهمية لا يستهان بها، حتى أنه أثناء القرن الثاني عاشر للهجرة الموافق للقرن الثامن عشر ميلادي والقرن الثالث عشر الهجري الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي، عند ظهور التأثير التركي والإيطالي، لم يستغن الفنانون والصناع التونسيون عن العناصر الفنية الأندلسية التي تعودوا على استغلالها منذ عدة قرون. وهنا من واجبنا التأكيد على أنه لا يمكن أن نتصور أهمية التأثيرات التي تمثلها مدينة تونس في الطابع الخارجي والداخلي لأحياءها القديمة، إذا استثنينا منها مختلف الإضافات الزخرفية التي أحدثها الفنانون الأندلسيون.
وقد ظهرت بصمات هؤلاء الفنانين بصفة جلية، خاصة على بنايات المدينة - من معالم دينية أو مدنية - في تلك الحقبة، أي من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، إلى القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، وحتى بعد ذلك(37) .
ونتيجة للسمعة الكبيرة التي كان يتمتع بها القادمون الجدد في الميدان الثقافي والفني والمعماري، فإن نجاحهم تحقق من دون شك بسرعة في أوساط تونس العاصمة، أسوة بالسلاطين الحفصيين ثم الدايات المراديين(38) فالبايات الحسينيين(39) الذين لجؤوا إلى خدماتهم لزخرفة قصورهم أو معالمهم الدينية التي أنشؤوها، سواء كان ذلك داخل المدينة أو خارجها(40) . ومحاكاة هذا المنوال، فرض نفسه بطبيعة الحال على أهل البلاط والطبقات العليا من أهل المدينة، مثلما كان الشأن بعد ذلك بالولوع بالأسلوب الزخرفي التركي، كما نلاحظه خاصة بجامع محمد
باي المرادي (41) وتربة البايات (42) ... إلخ، وكذلك التزويق الإيطالي الذي نتبينه في العديد من القصور التي أسست خلال النصف الثاني للقرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وبعد ذلك (في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي)(43) . أو حتى ببعض المعالم الدينية كجامع صاحب الطابع.
ومن المؤكد أن غض الطرف عن الدور الذي اضطلع به في الماضي، الحرفيون والفنانون الأندلسيون والمتعاملون معهم، يغير بطريقة جذرية طابع مختلف أنهج وأزقة المدينة، الذي حوفظ على قسم كبير منه إلى الآن - ويكفي أن نذكر هنا بنهج الأندلس الذي بقي محافظا على طابعه منذ القرن 11هـ/17م. وحتى في صورة المحافظة - في أساس المساكن - على المداخل الكلاسيكية بإطارها الحجري ذي الأسكفة المستوية الموروث عن المنازل الإفريقية الرومانية العتيقة، وكذلك حواجزها المشبكة المتواضعة، المصنوعة من الخشب أو الحديد، والواقعة في أعلى قسم من البنايات، فإنه تبرز مع ذلك صرامة كبيرة وراء هذا التبسيط الخارجي(44) .
وبالفعل، فإن إحدى المفاتن الرئيسية للمدينة التي تجلب النظر، هي طرافة وأناقة وثراء أبوابها ذات المصراعين، والمكسوة بطريقة محكمة بالمسامير من طرف حرفيين أندلسيين، وإذا كانت لا تبرز على أبواب المباني الدينية (كالمساجد والمدارس والزوايا والترب...) والمساكن العادية، إلا مسامير كبيرة الحجم، صفت أفقيا وعموديا، فإن الوضع يختلف بالنسبة للأبواب الخارجية للقصور والمنازل الهامة التي تحمل تقاسيم مستقيمة، مكونة من تشابك خطوط من المسامير الكبيرة، مزدانة بنماذج هندسية وأخرى مستوحاة من الزهور أنجزت بواسطة مسامير أقل حجما، وتمثل بصفة عامة، الأشكال التالية: قوسا مركزيا، وصفا أفقيا من الأقواس الصغيرة التي تذكر بشكل المحاريب ودوائر ونجوم، وشجرة السرو وكذلك زخارف زهرية في الزوايا، وأشكال مثلثة، وأخرى ذات شكل صليبي(45) ...
ومما يلاحظ أنه يبرز على مر القرون تطور في العناصر المستعملة، لعل إعادة استعمال أقدمها ببساطتها البدائية لا يستجيب إلى الاهتمام بالجانب الزخرفي، بل يدل على وفاء السكان لبعض هذه الأشكال التي وردت مع القادمين الأوائل.
وبعد ذلك أصبحت التركيبات الجديدة الأكثر تحررا والأشمل تبحث أكثر على الزخرف والتزويق وبعضها يغطي كامل الأبواب الكبيرة المعقودة في واجهات القصور، ومقرات إقامة الوجهاء، وقد أصبحت الموضة المنتشرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويبدو أن الدهن المتكرر للأبواب، ساهم عبر العصور في إبراز التسمير، ومن المؤكد أن الألوان الأكثر استعمالا على الخشب الحامل للنماذج المسمارية، هي خاصة الأصفر والأخضر الداكن وأخيرا الأحمر، عوض اليوم اللون الأزرق، هذه الألوان خاصة بعد أن أصبح هذا اللون الأزرق مستعملا في بلدة سيدي بوسعيد انطلاقا من بداية هذا القرن، وتأثر سكان مدينة تونس به.
وانتشرت أيضا النوافذ المرتفعة (التي أصبحت أكثر انتشارا في العهد الحسيني) فصنع الحرفيون نوافذ أنيقة بارزة تمكن النسوة من الإطلاع عما يحصل بالخارج - من دون أن يشاهدها المار - وهي نوافذ مستقيمة أو دائرية، وكانت مدعمة في أول الأمر بمشربية من الخشب المدهون - والذي ندعوه بتونس قنارية - وحمل تجميل النوعين من الشبابيك بزخارف حلزونية بديعة الشكل ذات طابع أندلسي.
وإلى اليوم، نلاحظ مدى تعلق متساكني مدينة تونس بهذه العناصر المختلفة الأندلسية الأصل، ومن المؤكد أن استعمال الأبواب المسمرة والشبابيك ذات الحديد المطروق تبدو متماشية مع مهمة الحماية والزينة في المنازل الجديدة المقامة بالخصوص في بلدة سيدي بوسعيد وبضواحي المنزه وقرطاج والمرسى إلخ...
ونعلم أنه بعد المدخل الرئيسي الذي يفتح على الشارع، يمكن الممر المنعرج (الدريبة أو السقيفة) بمفرده من بلوغ وسط المسكن، كان ذلك في مختلف أحياء المدينة أو في ربضيها الشمالي والجنوبي، وهو ما يسمح من تفادي إطلاع المارة على ما يوجد داخل الدار، وكذلك يمنع وصول الضجيج إلى الداخل. ويعتبر السكان كل من الدريبة أو السقيفة وسيلة للحماية ومكانا للاستقبال.
وفي حين لا يحمي المنزل المتواضع (بدون طابق علوي) إلا البابان المتواجهان في مدخله (باب يفتح على الشارع وباب يفتح علىالصحن) فإنه لا يمكن بلوغ داخل القصر أو المنزل الضخم بدون العبور بممر طويل ملتو (أو مكسور)(46) مقسم إلى عدة سقائف عن طريق أبواب ضخمة. أما الأبواب ذات المصراعين، فهي مسمرة ومطلية بالدهن مثل باب المدخل، ولا يختلف عنها إلا آخر الأبواب (باب القمجة).
ويمكن للسقيفة الأولى (أو الدريبة) أو السقائف الموالية أن تحول بشكل يجعلها صالحة لاستقبال الزوار مثل المزارعين والحرفيين أو التجار (وذلك حسب اختصاص صاحب الدار) لأن الحديث حول الأعمال يبقى بعيدا عن الشارع، وعن الحياة العائلية أيضا.
والاعتناء بزخارف هذه المداخل يعطي غالبا فكرة صحيحة عن ترف البيوت للذين لا يرونها، ويقتصرون على زيارة مداخلها. وهي تتركب من مقاعد حجرية أو رخامية (دكانة) مسندة إلى الجدران الجانبية التي ترتكز عليها في بعض الأحيان عميدات مجمعة بواسطة عقود. وليس هناك من شك، أن الأمر كان سيقتصر على هذا الإطار الصارم والبسيط الذي لا يثريه إلا الاستعمال التقليدي للحجر المنحوت، لولا تدخل المهاجرين الأندلسيين. وبالفعل، فإن الزخرفة الجديدة المتعددة الألوان التي أدخلوها في الدريبة والسقيفة، تضيف الكثير من البهجة على الطابع العام، مقترنة بنجاح، مع العناصر العادية من الحجر المنحوت والجدران المطلية بالجير. وهكذا بدأت تظهر كسوات الخزف التي تبرز في أعلاها النقوش الجصية الدقيقة والتي نجدها في العقود والجبهات والأفاريز(47) .
أما السقف والعوارض الخشبية البارزة فهي تظهر نماذج هندسية مزهرة ذات اللون الذهبي على قاعدة حمراء أو خضراء، وهذه النماذج كانت تزين بها سقوف من نفس الأسلوب داخل قصور غرناطة ومنازل الأندلس بصفة عامة من ناحية، وبقصور ومباني المغرب الأقصى من ناحية أخرى.
وهكذا، فإنه منذ المدخل، يعطي النمط الزخرفي المتبع في هذه الأماكن فكرة واضحة عن الأسلوب الذي يسيطر على مجمل المبنى.
وقد بقي الصحن الداخلي، لمدة زمنية طويلة، أمينا للنمط الخاص الذي تميز به تحت حكم السلاطين الحفصيين، ولم يطرأ عليه ظاهريا أي تحوير قبل اعتلاء البايات الحسينيين الحكم، وحتى في حالة غياب الرواق أو الطابق العلوي، فإن انتظام الجدران الفاتحة اللون، والمرتفعة في أغلب الأحيان تتخللها - من حسن الحظ - مشكاة مرتفعة مسطحة الأرضية، وهي متداولة مع الأبواب المحورية للغرف ذات الأسكفة المستقيمة - وهي قل أن تكون معقودة(48) تعلوها شمسية (أو قمرية). وأضيفت إليها في فترة متأخرة نوافذ منخفضة(49) ويبقى الحجر المنحوت (أو الكذان) هنا أيضا، المادة المفضلة لصنع العقود المعمية المتآلفة مع أطر الأبواب. أما الوحدة الهندسية للصحن، فإنها تتم باستعمال أرضية من البلاط المربع أو المستطيل الشكل المصنوع من الرخام أو الكذان(50).
وباستثناء الخزف الملون الذي يمكن أن يعلو غلق العقد أو اللوحات الحائطية، فإن تطبيق الفن الأندلسي المورسكي يظهر من خلال صنع النوافذ المتوأمة في الطابق العلوي(51) وعن طريق الزخرف المكون لجبهات العقود وكذلك النقوش الجصية.
وقد لاقت الغرف المطلة على الصحن من جهتها، عناية خاصة من طرف الفنانين الأندلسيين، وهذا الأمر ينطبق على المساكن الهامة المستوحاة في أغلبها من البذخ الموجود في قصور السلاطين كالدايات والبايات. لذا فإننا لا نستغرب من وجود هذا التقليد حتى داخل المساكن الأقل اتساعا التي هي على ملك تاجر ثري أو عالم ديني أو مثقف... والذين يعملون على الأقل على توفير بيت جميل يستقبلون فيه ضيوفا بارزين. وفي هذا الصدد نذكر الغرف التي يكون لها شكل حرف T اللاتينية (أي "بالقبو والمقاصر"، الأول المركزي، والاثنان الآخران جانبيان) وبعد أن كانت مربعات الخزف والفسيفساء المتعددة الألوان مستعملة في الأرضيات، أصبح الزليج يكسو جدران "القبو" الذي يعتبر مكان الاجتماع والاستقبال (أي الصالون الحالي)، ويقع دائما في مواجهة الباب المؤدي إلى الصحن.
وفي مستوى أعلى، فإنه حصل إثراء هذا الزليج بإفريز منحوت بنقوش جصية متكونة عادة من آيات قرآنية أو عبارات دعائية ك"العزة لله"... أو "الملك لله" أو "العافية الباقية"... تعلوها هي الأخرى نقوش جصية متكونة من عقود بسيطة، تكون مثرية بزهور، تختلط معها رسوم هندسية، خاصة منها أطباق النجوم المتشابكة.
وبالإضافة إلى هذا الإطار الداخلي نجد في أعلى قسم، السقف من الخشب المطلي بماء الذهب، والمدهون طبقا للنمط السالف الذكر بالنسبة لمداخل القصور والمساكن الضخمة.
وما يمكن تأكيده، أنه رغم وصول عدة تأثيرات، التي سيطرت على القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، فإننا نلاحظ تعلقا خاصا بالتأثيرات الأندلسية سواء كان ذلك على المستوى الرسمي - البايات الحسينيين - أو على مستوى سكان المدينة بصفة عامة. لذلك سنشاهد في العديد من القصور إدخال عناصر تعودنا على وجودها بصفة عامة. في القرن السابع عشر للميلاد، خاصة بقصر الباي بالقصبة الذي أضيف في عهد حمودة باشا الحسيني أو بقصر البايات بباردو، من خلال العديد من الإضافات التي أجريت في عهد محمود باي، ثم الصادق باي، وذلك قبل دخول الحماية الفرنسية سنة 1881.
بالطبع ذكرنا بإيجاز بعض عناصر التواجد الأندلسي المورسكي بمدينة تونس، إلا أن هذا التواجد، تمثل في عدة نقاط أخرى مثل بعض الصناعات والفلاحة، والمأكولات والعادات والتقاليد التي أدخلوها معهم.
ويبدو أن هذه التأثيرات دخلت إفريقية مع قدوم الموحدين - ابتداء من النصف الثاني للقرن السادس للهجرة - أي عند قدوم عبد المؤمن بن علي سنة الأخماس (555هـ/1160م) - إلا أنها أصبحت أكثر وضوحا عند استيلاء أبي زكرياء الأول على الحكم سنة (625هـ/1227م - 647هـ/1249م). فقبل قدومه إلى إفريقية كان مؤسس الدولة الحفصية واليا على غربي الأندلس مما أدى إلى ارتباط العديد من الأندلسيين - وخصوصا منهم الإشبيليين - بأبي زكرياء. ويفيدنا العلامة عبد الرحمان ابن خلدون حول علاقة هؤلاء بأبي زكرياء، فيذكر بأنه: "كانت لأهل إشبيلية خصوصا من بين الأندلس، صلة بالأمير زكرياء بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غربي الأندلس"(3) .
ونتيجة لهذه العلاقة الوطيدة، أع 3، ص. 133.-155 صيف1997 تى الأندلسيون في كرات متتالية إلى مدينة تونس بداية من النصف الأول للقرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، ويبدو أن الدفعات الأولى لهؤلاء المهاجرين قدمت ابتداء من سقوط بلنسية في أيدي الإسبان سنة 636هـ/1238م أو ربما قبل ذلك ببضع سنوات. ومن بين من استوطن مدينة تونس آنذاك نذكر على سبيل المثال: أبا عبد الله ابن الابار(4) . ثم قدم عدد هام آخر عند سقوط إشبيلية أيضا في أيدي المسيحيين سنة 649هـ/1248م، وقد شجعهم ما وجدوه من الترحاب والمراعاة على الاتجاه إلى مدينة تونس، إذ بقي أبو زكرياء ثم خلفاؤه في الحكم، مرتبطين بالتقاليد الأندلسية. إلا أن عددهم تضاءل في القرن الثامن للهجرة / الرابع عشر الميلادي، لكن الأمور لم تبق على هذا النسق، إذ تجدد قدومهم في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وازداد خاصة بعد سقوط غرناطة.
ويرى أغلب المؤرخين أن جل هؤلاء المهاجرين كانوا من الأثرياء والعلماء(5) بينما تذهب أقلية أخرى إلى أن هؤلاء المهاجرين كانوا من جميع طبقات المجتمع الأندلسي(6) ، إلا أنه لدينا نص لابن سعيد - يرجع إلى سنة 721هـ/1321م - وهذا المؤلف الذي تولى مناصب سياسية مرموقة، كان أحد المهاجرين الأندلسيين، وما أتى به يؤيد ما ذهب إليه القسم الثاني من المؤرخين، إذ يذكر المصنف أن أبا زكرياء بنى معالم دينية وقصورا ضخمة، وأنه اهتم بالحدائق وزرع أشجار العنب على طريقة الأندلسيين وأن كل المهندسين هم أصيلي الأندلس، وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب الصنائع من بنائين ونجارين ودهانين الذين ساهموا في بناء هذه المعالم، وكذلك المشرفين على البساتين والحدائق إلخ ...
ويعلمنا نفس المؤلف أن المعالم التي بنيت آنذاك - أي في بداية القرن 8 هـ / 14 م - قد قام بتصميمها أندلسيون أو نقلوا تخطيطها عن معالم أخرى توجد في بلادهم.
كما أن المتمعن في الجزء السادس "للعبر" لابن خلدون يلاحظ فيه أنه رغم عدم الإشارة إلى وجود بعض الحرفيين وأرباب الصنائع وغيرهم من العامة للمهاجرين الأندلسيين، فإن إشارة هذا المصنف في العديد من المناسبات إلى تواجد جالية من شرقي الأندلس من غربيه بمدينة تونس وخاصة ذكره لوجود كتيبة من الجند متكونة من الأندلسيين ساهمت في الحروب الصليبية التي واجه خلالها المستنصر الحفصي ملك الإفرنجة لويس التاسع سنة 668هـ / 1270م(7) يدفعنا إلى ترجيح الرأي الثاني وإلى التأكيد على أنه كان يوجد خلال الهجرات الأولى إضافة إلى جماعة العلماء والأثرياء الذين ذكرت المصادر العديد من أسمائهم(8) من المهاجرين المنتمين إلى أهل الصنائع والحرف وغيرهم، ممن غضت عنهم المصادر الطرف ولم تذكر البتة. مع كل هذه المعطيات يجب
إضافة ما تمدنا به بعض شواهد القبور من معلومات(9) وهي التي ترجع إلى القرون السابعة والثامنة والتاسعة هجرية، والتي تفيدنا بمهن البعض من هؤلاء الأندلسيين الذين استوطنوا مدينة تونس. فقد تم العثور على أسماء بعض التجار والحرفيين وغيرهم.
لكن أهم دفعة وصلت إلى تونس، تمثلت في عدد كبير من المورسكيين - وهم مسلمو الأندلس الذين هربوا بدينهم من الاضطهاد المسيحي - ويبدو أن هؤلاء لم يجدوا نفس القبول بالجزائر وبدرجة أقل بالمغرب، إذ نهبهم الأعراب ولم يبق حتى ما يسدون به رمقهم(10) ولذلك، وبعد توقف بأحد هذين البلدين، توجه الكثير منهم في رحلة ثانية إلى البلاد التونسية(11) كما قدم عدد هام من أعضاء هذه الهجرة عن طريق فرنسا مرورا بمرسيليا حيث سلبت أموال جلهم. وهو ما تفيدنا به بعض وثائق الأرشيف الفرنسي (بمرسيليا).
ويعلمنا صاحب "المؤنس" (ابن أبي دينار) أنه "في سنة 1017هـ/1608م و1018هـ/1609م جاءت الأندلس من بلاد النصارى - نفاهم صاحب إسبانيا - وكانوا خلقا كثيرا فأوسع لهم عثمان داي في البلاد(12) وفرق ضعفاءهم على الناس وأذن لهم أن يعمروا حيث شاؤوا... واستوطنوا في عدة أماكن"(13) .
إلا أنه من المحتمل أن يوسف داي(14) لعب دورا هاما في مجال استيطانهم قبل أخذه السلطة، وذلك في مدة حكم عثمان داي(15) . وإن كان العديد من هؤلاء المهاجرين وزعوا على قرى ومدن بالشمال التونسي، فقد أبقى الأثرياء منهم وأهل الحرف - مثل المختصين في صنع الشاشية -(16) في مدينة تونس، كما بقي أيضا التجار والعلماء والمدرسين (ويذهب البعض إلى أن عددهم أثناء هذه الهجرة الأخيرة بلغ ثمانين ألف نسمة)(17) .
وكانت لكل هؤلاء خاصيتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ولباسهم وتصرفاتهم... فحملوا معهم ثقافتهم وأنواع فنونهم، وطرق بنائهم الخ... وقد كانت إذن اختصاصات هؤلاء المهاجرين مختلفة، فمنهم أصحاب الحرف من بنائين ونجارين وحدادين... ومنهم المثقفون والعلماء، ومنهم المهندسون والأطباء... لذا كان تأثيرهم في المجتمع مختلف الوجوه.
تواجد إذن الكثير من العلماء والمثقفين الذين أثروا في الحياة الثقافية، سواء كان ذلك أثناء الفترة لقدومهم، أو خلال الفترة الثانية - أي أثناء حكم عثمان داي - وهكذا مثلت الثقافة الأندلسية نخبة من العلماء البارزين، فعرفت المدينة بفضل هؤلاء ومن سواهم من الأفارقة في القرنين السابع والثامن الهجريين والنصف الأول من القرن التاسع هجري، نهضة علمية جعلت منها أحد أهم المراكز العلمية والثقافية والتعليمية بالمغرب الإسلامي، ومن الجزائر أن الأندلسيين مثلوا نواة هذه
النهضة. ومما لا شك فيه أن التطور الديموغرافي الداخلي الذي عرفته مدينة تونس خلال القرن السابع الهجري، وكذلك الوفود القادمة من المغرب الأقصى والجزائر وغيرهم، زادت في أعداد طلاب العلم. وقد قابلت هذه الظاهرة، مجيء مشايخ أندلسيين كانت لهم الإمكانية علميا أن يكونوا إطارات للتعليم، وقد كان عدد هؤلاء الشيوخ القادمين خلال هذه الفترة مرتفعا، وعثرنا على أسماء العديد منهم(18) الذين درسوا بمدارس مدينة تونس وبالجامع الأعظم وفي العديد من الأماكن الأخرى(19) . ويمكن هنا أن نسرد أسماء العشرات، أو قل المئات من أسماء هؤلاء الذين أتت بهم المصادر، لكن أهمهم على الإطلاق، من الذين أثروا في الحياة الفكرية والثقافية: المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، أحد أحفاد المهاجرين الأوائل(20) .
كما نرى من خلال ما يفيدنا به عبد الباسط بن خليل أهمية هؤلاء العلماء الأندلسيين المستقرين بتونس، وقد بهره محمد الخير المالقي بعلمه وأدبه (الذي ورد على تونس سنة 846هـ/1459م)وكذلك نفس الشيء بالنسبة للشاعر الأندلسي ابن رزين الخزرجي الأنصاري (21) وغيرهم كثير(22) .
وقد تخرج عليهم عدد هام من العلماء الأفارقة الذين بثوا بدورهم أسس الثقافة والعديد من المصنفات الأندلسية بالبلاد التونسية، ولو حاولنا الإطلاع على المصنفات التي كانت تدرس بأماكن التعليم بمدينة تونس خلال الفترة الحفصية وما بعدها، للاحظنا أن العديد منها، مؤلفات أندلسية، وأنها لم تكن تدرس قبل وفود الأندلسيين، والتي أدخلها معهم بعض هؤلاء المهاجرين.
وما يجب التأكيد عليه أيضا، طريقة التدريس التي أدخلها معهم العلماء الأندلسيون، والتي أكد عليها ابن خلدون في مقدمته.
كما نجد خلال الفترة العثمانية بعض أسماء علماء أندلسيين أو من أبناء أندلسيين، وهو دليل على قدوم نخبة من المثقفين خلال هجرة 1017هـ/1018م - 1609م(23) ومثلما اهتم الحفصيون ثم العثمانيون بتشييد المدارس لبث العلم. قام العنصر المهاجر الآخر - أي الأندلسيون - بنفس العمل. فلقد أنجزت منشآت ثقافية لتمكين الأندلسيين القاطنين خارج مدينة تونس من الالتحاق بمدرسة مخصصة لهم. أما الساكنون من بينهم في مدينة تونس فقد كان بإمكانهم الالتحاق بجامع الزيتونة، لذلك أسست المدرسة الأندلسية وخصصت لأبناء إخوانهم المهاجرين الذين لا يستطيعون الحصول على مسكن. وكان ذلك سنة 1034هـ/1625م(24) ويبدو أن يوسف داي شجعهم على بناء هذه المدرسة، ولم يكتف هؤلاء المهاجرون بتشييد هذه المدرسة، فمن بين مآثرهم الأخرى بناؤهم في أوائل القرن 11هـ/17م جامع سبحان الله(25) وربما نتج اختيار الأندلسيين على مكان المدرسة والجامع لقربه من موقع سكناهم، فقد استقر العديد منهم بباب قرطاجنة، وكذلك بنهج ترنجة الذي لا يبعد إلا مسافة صغيرة جدا عن موقعي المدرسة والجامع. لكن حكام البلاد - وخاصة السلاطين الأوائل - لم يكتفوا باستعمال الأندلسيين في ميدان الدراسة، بل استعملوا البعض منهم - كما لاحظنا بعد - للحد من التأثير الموحدي. ولذلك اهتم الكثير من الأندلسيين القادمين في الفترات الأولى بالسياسة، وبلغوا مناصب سياسية عالية، لكن إثر محاولة الكثير منهم التدخل في شؤون الدولة، ونتيجة لتعودهم التناحر على المناصب، فقد كان مآل البعض منهم القتل(26) .
وقد أفادنا ابن خلدون بأسماء الكثير ممن قتلوا من بين العلماء ووجهاء الأندلسيين إثر السعايات والوشايات اليومية التي كان يعرفها البلاط الحفصي(27) .
كان تأثير الأندلسيين إذن هاما جدا، ونتيجة لمحاولتهم الاستيلاء على المناصب السياسية التي كان مستحوذا عليها العنصر الموحدي فقد حاول أن يوقع بهم البعض من هؤلاء، فثاروا على المستنصر الحفصي سنة 648هـ/1250م لكن هزموا، وأدى هذا بالطبع إلى تقوية صف الأندلسيين.
ومما نلاحظه أيضا وجود بعض الأطباء من بين الأندلسيين المهاجرين إلى تونس، وقد لعبوا دورا هاما في تكوين نخبة من الأطباء بالبلاد، إذ أن أغلبهم الذين باشروا مهنتهم بتونس خلال الفترة الحفصية من أصيلي الأندلس أو صقلية. وتوصلنا من خلال المعلومات والأسماء التي وردت في المصادر إلى أن هذا العلم يتوارث أبا عن جد، وقد عثرنا على بعض شواهد القبور (أو مشاهد) تحتوي على أسماء أطباء أندلسيين عاشوا بتونس من بينهم "الحكيم أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الحكيم أبي الظفر غالب بن الحكيم عبد الله بن محمد غالب الفي المالقي المتوفي سنة 654هـ/1256م" وكذلك "الطبيب الماهر أبو زيد عبد الرحمان بن الشيخ الطبيب الماهر أبو عثمان سعيد الأنصاري الأندلسي، توفي سنة 872هـ/1467م"(28) .
كما تفيدنا بعض المصادر أنه ورد على تونس بعض الأطباء الأندلسيين الآخرين: فهذا أبو يعقوب يوسف بن محمد بن اندراس (المتوفى سنة 729هـ/1329م(29) قد درس الطب بمنزله، واخذ العلم عن أبيه، أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الأموي المعروف بابن اندراس المتوفى سنة (674هـ/1275م)(30) وهو أصيل مرسية. فأكثر الأطباء الذين باشروا مهنتهم بتونس هم إذن أصيلو الأندلس(31) وقد كونوا بدورهم العديد من الأطباء الأفارقة، الذين وردت أسماؤهم عرضا في المصنفات(32) .
التأثيرات الفنية والمعمارية
لم يقتصر إذن قدوم الأندلسيين على المثقفين والعلماء، بل وصلها أيضا - كما لا حظنا بعد - الكثير من المهندسين والعمال المختصين، فابن سعيد يفيدنا أن أبا زكرياء الأول مؤسس الدولة الحفصية بنى معالم دينية وقصورا هامة(33) وأنه اهتم بالحدائق، وزرع أشجار العنب على طريقة الأندلسيين، وأن كل المهندسين هم من أصيلي الأندلس، وكذلك نفس الشيء بالنسبة لأصحاب الصنائع من بنائين ونجارين ودهانين، والمشرفين على البساتين والحدائق إلخ... ويعلمنا نفس المؤلف أن المعالم التي بنيت آنذاك قد قام بتخطيطها أندلسيون، أو نقلوا تخطيطها على معالم أخرى توجد في بلادهم . وتواصل الاعتماد على المهندسين والعملة المختصين القادمين من الأندلس، فنحن نعلم مثلا أن المهندس ابن غالب الذي أشرف على بناء جامع يوسف داي ومدرسته سنة 1021هـ/1612م هو أندلسي الأصل وقد قام بأعمال ترميم هامة بجامع الزيتونة(34) . كما يذكر المنتصر بن أبي لحية المرابطي، أن العمال المختصين في البناء الذين بنوا زاوية سيدي حذيفة بأمر الوالي الصالح أبي الغيث القشاش كانوا من الأندلسيين(35) . ونتيجة لتواجد هذه اليد المختصة، وهؤلاء المهندسين الذين أتوا معهم بطرقهم في البناء، وبنوعية فنونهم، ظهرت تأثيرات أندلسية من الناحية الفنية والمعمارية خاصة - تواصل بها العمل منذ القرن السابع الهجري/ الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا، إذ وجد تمازج بين الفنين المعماريين: الإفريقي والأندلسي. وتمثل التأثير الأندلسي في عدة عناصر فنية، خصوصا منها النقوش الجصية التي أخذت أبعادا كبيرة انطلاقا من فترة بناء الجامع الموحدي بالقصبة (633هـ/1235م)، وتواصلت زخرفة جل المعالم بهذه النقوش الجصية والمتمثلة خاصة في الأشكال الهندسية والنباتية، كما أن من بين الصناعات الأخرى الهامة التي أدخلها الأندلسيون صناعة الزليج - وهو ما يطلق عليه في المشرق القشاني -(36) .
كما أثر الأندلسيون أيضا في العمل على الخشب - مثل السقوف والأبواب إلخ... وبلغ التأثير أهمية لا يستهان بها، حتى أنه أثناء القرن الثاني عاشر للهجرة الموافق للقرن الثامن عشر ميلادي والقرن الثالث عشر الهجري الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي، عند ظهور التأثير التركي والإيطالي، لم يستغن الفنانون والصناع التونسيون عن العناصر الفنية الأندلسية التي تعودوا على استغلالها منذ عدة قرون. وهنا من واجبنا التأكيد على أنه لا يمكن أن نتصور أهمية التأثيرات التي تمثلها مدينة تونس في الطابع الخارجي والداخلي لأحياءها القديمة، إذا استثنينا منها مختلف الإضافات الزخرفية التي أحدثها الفنانون الأندلسيون.
وقد ظهرت بصمات هؤلاء الفنانين بصفة جلية، خاصة على بنايات المدينة - من معالم دينية أو مدنية - في تلك الحقبة، أي من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، إلى القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، وحتى بعد ذلك(37) .
ونتيجة للسمعة الكبيرة التي كان يتمتع بها القادمون الجدد في الميدان الثقافي والفني والمعماري، فإن نجاحهم تحقق من دون شك بسرعة في أوساط تونس العاصمة، أسوة بالسلاطين الحفصيين ثم الدايات المراديين(38) فالبايات الحسينيين(39) الذين لجؤوا إلى خدماتهم لزخرفة قصورهم أو معالمهم الدينية التي أنشؤوها، سواء كان ذلك داخل المدينة أو خارجها(40) . ومحاكاة هذا المنوال، فرض نفسه بطبيعة الحال على أهل البلاط والطبقات العليا من أهل المدينة، مثلما كان الشأن بعد ذلك بالولوع بالأسلوب الزخرفي التركي، كما نلاحظه خاصة بجامع محمد
باي المرادي (41) وتربة البايات (42) ... إلخ، وكذلك التزويق الإيطالي الذي نتبينه في العديد من القصور التي أسست خلال النصف الثاني للقرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وبعد ذلك (في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي)(43) . أو حتى ببعض المعالم الدينية كجامع صاحب الطابع.
ومن المؤكد أن غض الطرف عن الدور الذي اضطلع به في الماضي، الحرفيون والفنانون الأندلسيون والمتعاملون معهم، يغير بطريقة جذرية طابع مختلف أنهج وأزقة المدينة، الذي حوفظ على قسم كبير منه إلى الآن - ويكفي أن نذكر هنا بنهج الأندلس الذي بقي محافظا على طابعه منذ القرن 11هـ/17م. وحتى في صورة المحافظة - في أساس المساكن - على المداخل الكلاسيكية بإطارها الحجري ذي الأسكفة المستوية الموروث عن المنازل الإفريقية الرومانية العتيقة، وكذلك حواجزها المشبكة المتواضعة، المصنوعة من الخشب أو الحديد، والواقعة في أعلى قسم من البنايات، فإنه تبرز مع ذلك صرامة كبيرة وراء هذا التبسيط الخارجي(44) .
وبالفعل، فإن إحدى المفاتن الرئيسية للمدينة التي تجلب النظر، هي طرافة وأناقة وثراء أبوابها ذات المصراعين، والمكسوة بطريقة محكمة بالمسامير من طرف حرفيين أندلسيين، وإذا كانت لا تبرز على أبواب المباني الدينية (كالمساجد والمدارس والزوايا والترب...) والمساكن العادية، إلا مسامير كبيرة الحجم، صفت أفقيا وعموديا، فإن الوضع يختلف بالنسبة للأبواب الخارجية للقصور والمنازل الهامة التي تحمل تقاسيم مستقيمة، مكونة من تشابك خطوط من المسامير الكبيرة، مزدانة بنماذج هندسية وأخرى مستوحاة من الزهور أنجزت بواسطة مسامير أقل حجما، وتمثل بصفة عامة، الأشكال التالية: قوسا مركزيا، وصفا أفقيا من الأقواس الصغيرة التي تذكر بشكل المحاريب ودوائر ونجوم، وشجرة السرو وكذلك زخارف زهرية في الزوايا، وأشكال مثلثة، وأخرى ذات شكل صليبي(45) ...
ومما يلاحظ أنه يبرز على مر القرون تطور في العناصر المستعملة، لعل إعادة استعمال أقدمها ببساطتها البدائية لا يستجيب إلى الاهتمام بالجانب الزخرفي، بل يدل على وفاء السكان لبعض هذه الأشكال التي وردت مع القادمين الأوائل.
وبعد ذلك أصبحت التركيبات الجديدة الأكثر تحررا والأشمل تبحث أكثر على الزخرف والتزويق وبعضها يغطي كامل الأبواب الكبيرة المعقودة في واجهات القصور، ومقرات إقامة الوجهاء، وقد أصبحت الموضة المنتشرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويبدو أن الدهن المتكرر للأبواب، ساهم عبر العصور في إبراز التسمير، ومن المؤكد أن الألوان الأكثر استعمالا على الخشب الحامل للنماذج المسمارية، هي خاصة الأصفر والأخضر الداكن وأخيرا الأحمر، عوض اليوم اللون الأزرق، هذه الألوان خاصة بعد أن أصبح هذا اللون الأزرق مستعملا في بلدة سيدي بوسعيد انطلاقا من بداية هذا القرن، وتأثر سكان مدينة تونس به.
وانتشرت أيضا النوافذ المرتفعة (التي أصبحت أكثر انتشارا في العهد الحسيني) فصنع الحرفيون نوافذ أنيقة بارزة تمكن النسوة من الإطلاع عما يحصل بالخارج - من دون أن يشاهدها المار - وهي نوافذ مستقيمة أو دائرية، وكانت مدعمة في أول الأمر بمشربية من الخشب المدهون - والذي ندعوه بتونس قنارية - وحمل تجميل النوعين من الشبابيك بزخارف حلزونية بديعة الشكل ذات طابع أندلسي.
وإلى اليوم، نلاحظ مدى تعلق متساكني مدينة تونس بهذه العناصر المختلفة الأندلسية الأصل، ومن المؤكد أن استعمال الأبواب المسمرة والشبابيك ذات الحديد المطروق تبدو متماشية مع مهمة الحماية والزينة في المنازل الجديدة المقامة بالخصوص في بلدة سيدي بوسعيد وبضواحي المنزه وقرطاج والمرسى إلخ...
ونعلم أنه بعد المدخل الرئيسي الذي يفتح على الشارع، يمكن الممر المنعرج (الدريبة أو السقيفة) بمفرده من بلوغ وسط المسكن، كان ذلك في مختلف أحياء المدينة أو في ربضيها الشمالي والجنوبي، وهو ما يسمح من تفادي إطلاع المارة على ما يوجد داخل الدار، وكذلك يمنع وصول الضجيج إلى الداخل. ويعتبر السكان كل من الدريبة أو السقيفة وسيلة للحماية ومكانا للاستقبال.
وفي حين لا يحمي المنزل المتواضع (بدون طابق علوي) إلا البابان المتواجهان في مدخله (باب يفتح على الشارع وباب يفتح علىالصحن) فإنه لا يمكن بلوغ داخل القصر أو المنزل الضخم بدون العبور بممر طويل ملتو (أو مكسور)(46) مقسم إلى عدة سقائف عن طريق أبواب ضخمة. أما الأبواب ذات المصراعين، فهي مسمرة ومطلية بالدهن مثل باب المدخل، ولا يختلف عنها إلا آخر الأبواب (باب القمجة).
ويمكن للسقيفة الأولى (أو الدريبة) أو السقائف الموالية أن تحول بشكل يجعلها صالحة لاستقبال الزوار مثل المزارعين والحرفيين أو التجار (وذلك حسب اختصاص صاحب الدار) لأن الحديث حول الأعمال يبقى بعيدا عن الشارع، وعن الحياة العائلية أيضا.
والاعتناء بزخارف هذه المداخل يعطي غالبا فكرة صحيحة عن ترف البيوت للذين لا يرونها، ويقتصرون على زيارة مداخلها. وهي تتركب من مقاعد حجرية أو رخامية (دكانة) مسندة إلى الجدران الجانبية التي ترتكز عليها في بعض الأحيان عميدات مجمعة بواسطة عقود. وليس هناك من شك، أن الأمر كان سيقتصر على هذا الإطار الصارم والبسيط الذي لا يثريه إلا الاستعمال التقليدي للحجر المنحوت، لولا تدخل المهاجرين الأندلسيين. وبالفعل، فإن الزخرفة الجديدة المتعددة الألوان التي أدخلوها في الدريبة والسقيفة، تضيف الكثير من البهجة على الطابع العام، مقترنة بنجاح، مع العناصر العادية من الحجر المنحوت والجدران المطلية بالجير. وهكذا بدأت تظهر كسوات الخزف التي تبرز في أعلاها النقوش الجصية الدقيقة والتي نجدها في العقود والجبهات والأفاريز(47) .
أما السقف والعوارض الخشبية البارزة فهي تظهر نماذج هندسية مزهرة ذات اللون الذهبي على قاعدة حمراء أو خضراء، وهذه النماذج كانت تزين بها سقوف من نفس الأسلوب داخل قصور غرناطة ومنازل الأندلس بصفة عامة من ناحية، وبقصور ومباني المغرب الأقصى من ناحية أخرى.
وهكذا، فإنه منذ المدخل، يعطي النمط الزخرفي المتبع في هذه الأماكن فكرة واضحة عن الأسلوب الذي يسيطر على مجمل المبنى.
وقد بقي الصحن الداخلي، لمدة زمنية طويلة، أمينا للنمط الخاص الذي تميز به تحت حكم السلاطين الحفصيين، ولم يطرأ عليه ظاهريا أي تحوير قبل اعتلاء البايات الحسينيين الحكم، وحتى في حالة غياب الرواق أو الطابق العلوي، فإن انتظام الجدران الفاتحة اللون، والمرتفعة في أغلب الأحيان تتخللها - من حسن الحظ - مشكاة مرتفعة مسطحة الأرضية، وهي متداولة مع الأبواب المحورية للغرف ذات الأسكفة المستقيمة - وهي قل أن تكون معقودة(48) تعلوها شمسية (أو قمرية). وأضيفت إليها في فترة متأخرة نوافذ منخفضة(49) ويبقى الحجر المنحوت (أو الكذان) هنا أيضا، المادة المفضلة لصنع العقود المعمية المتآلفة مع أطر الأبواب. أما الوحدة الهندسية للصحن، فإنها تتم باستعمال أرضية من البلاط المربع أو المستطيل الشكل المصنوع من الرخام أو الكذان(50).
وباستثناء الخزف الملون الذي يمكن أن يعلو غلق العقد أو اللوحات الحائطية، فإن تطبيق الفن الأندلسي المورسكي يظهر من خلال صنع النوافذ المتوأمة في الطابق العلوي(51) وعن طريق الزخرف المكون لجبهات العقود وكذلك النقوش الجصية.
وقد لاقت الغرف المطلة على الصحن من جهتها، عناية خاصة من طرف الفنانين الأندلسيين، وهذا الأمر ينطبق على المساكن الهامة المستوحاة في أغلبها من البذخ الموجود في قصور السلاطين كالدايات والبايات. لذا فإننا لا نستغرب من وجود هذا التقليد حتى داخل المساكن الأقل اتساعا التي هي على ملك تاجر ثري أو عالم ديني أو مثقف... والذين يعملون على الأقل على توفير بيت جميل يستقبلون فيه ضيوفا بارزين. وفي هذا الصدد نذكر الغرف التي يكون لها شكل حرف T اللاتينية (أي "بالقبو والمقاصر"، الأول المركزي، والاثنان الآخران جانبيان) وبعد أن كانت مربعات الخزف والفسيفساء المتعددة الألوان مستعملة في الأرضيات، أصبح الزليج يكسو جدران "القبو" الذي يعتبر مكان الاجتماع والاستقبال (أي الصالون الحالي)، ويقع دائما في مواجهة الباب المؤدي إلى الصحن.
وفي مستوى أعلى، فإنه حصل إثراء هذا الزليج بإفريز منحوت بنقوش جصية متكونة عادة من آيات قرآنية أو عبارات دعائية ك"العزة لله"... أو "الملك لله" أو "العافية الباقية"... تعلوها هي الأخرى نقوش جصية متكونة من عقود بسيطة، تكون مثرية بزهور، تختلط معها رسوم هندسية، خاصة منها أطباق النجوم المتشابكة.
وبالإضافة إلى هذا الإطار الداخلي نجد في أعلى قسم، السقف من الخشب المطلي بماء الذهب، والمدهون طبقا للنمط السالف الذكر بالنسبة لمداخل القصور والمساكن الضخمة.
وما يمكن تأكيده، أنه رغم وصول عدة تأثيرات، التي سيطرت على القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، فإننا نلاحظ تعلقا خاصا بالتأثيرات الأندلسية سواء كان ذلك على المستوى الرسمي - البايات الحسينيين - أو على مستوى سكان المدينة بصفة عامة. لذلك سنشاهد في العديد من القصور إدخال عناصر تعودنا على وجودها بصفة عامة. في القرن السابع عشر للميلاد، خاصة بقصر الباي بالقصبة الذي أضيف في عهد حمودة باشا الحسيني أو بقصر البايات بباردو، من خلال العديد من الإضافات التي أجريت في عهد محمود باي، ثم الصادق باي، وذلك قبل دخول الحماية الفرنسية سنة 1881.
بالطبع ذكرنا بإيجاز بعض عناصر التواجد الأندلسي المورسكي بمدينة تونس، إلا أن هذا التواجد، تمثل في عدة نقاط أخرى مثل بعض الصناعات والفلاحة، والمأكولات والعادات والتقاليد التي أدخلوها معهم.
المصدر مجلة التاريخ العربي ع 3، ص. 133.-155 صيف1997
0 commentaires :
Post a Comment