احتضنت مدينة العلوم التونسية لمدة ثلاثة أيام ملتقى دوليًّا خاصًّا بالذاكرة الأندلسية بحضور نخبة متميزة من الباحثين المنتمين إلى مختلف مجالات التراث لتبادل الآراء والتجارب والخبرات والمعلومات حول التراث الأندلسي بالمملكة الإسبانية والجمهورية التونسية والجزائرية، وذلك بمناسبة المئوية الرابعة لحملة التهجير الكبرى، وذلك إثر ضعف السلطة العربية الإسلامية وتشتتها ممّا مكّن الإسبان من استرجاع النفوذ بعد فترة طويلة دامت قرابة ستة قرون فاضطر الكثير من العرب المسلمين إلى مغادرة الأندلس (الفردوس المفقود) وذلك على دفعات وتكثفت هجرتهم اثر سقوط غرناطة سنة 1492م وسجلت سنة 1609 منعرجًا هامًا بإصدار الملك فيليب الثالث لقرار يتمثل في تهجير كل من لم يتنصر مستعينًا في ذلك بمحاكم التفتيش رغم محاولة العرب المسلمين المقاومة بشتى الطرق وقد مروا بمرحلة استعمال الأعجمية (الخميا) أي التحدث بالاسبانية والكتابة بالعربية مع التظاهر بالتنصّر.! والآن بعد أربعة قرون على هذه الهجرة الأندلسية الكبرى التي تكثفت سنة 1609 واليوم ونحن في سنة 2009 هناك عدة أسئلة تفرض نفسها منها: من هم الموريسكيون؟ وما علاقتهم ببلدان المغرب؟ وكيف اندمجوا في هذا المجتمع؟ وما الذي ذهبوا به من الأندلس؟ وهل شكّلوا عبئًا على هذه البلدان؟ أم بالعكس كانت لهم بصماتهم الواضحة والطيبة في الماضي والحاضر؟
الأندلسيون في تونس
ومن بين الوجهات التي قصدها المهاجرون الأندلسيون (أو الموريسكيون) بلاد المغرب العربي أي أساسًا المغرب الأقصى والجزائر وتونس وقد بلغ عددهم في تونس ما يناهز ثمانين ألف سنة 1609 وقد سهل لهم عثمان داي (باي تونس) ثم يوسف داي السكنى حيث شاءوا ورحّب بهم السكان التونسيون وأوسعوا لهم فأسسوا عدة قرى ومدن يقارب عددها العشرين منها، بعض الأحياء بتونس العاصمة ومدينة بنزرت (حندلس) إضافة إلى رأس الجبل ورفراف والعالية والماتلين وقلعة الأندلس بشواطئ بنزرت وسليمان وقرمبالية وتركي بالوطن القبلي وقربها زغوان أما بحوض نهر مجردة فقد أسسوا الجديدة والبطان وطبربة وقريش الوادي قرب مجاز الباب والسلوقية وتستور وهي أكبرها وأكثرها محافظة على الموروث الحضاري الأندلسي المادي واللامادي (أو المعنوي)، وأول من حل بتونس كان منهم رجال علم وثقافة واستوطنوا أساسا العاصمة إلا أن الذين ذهبوا بعدهم كانوا من الصناعيين (الخزف والشاشية (الطربوش) والشعر والجلود والحلي وآلات الفلاحة كالمحاريث والناعورات ووسائل النقل كالعربات المجرورة والدفعة الأخيرة معظمها من المتعلقين بالأرض أي من الفلاحين وقد كانت لهم إضافات عديدة في هذا الميدان خاصة طرق الري وجلبوا مشاتل جديدة أو محسنة تتعلق أساسا بالزعفران والمشمش والرمان والسفرجل والزيتون والنارنج والتوت والخوخ والتفاح والأجاص، ومن ناحية أخرى استعملوا تقنيات في التعمير والبناء فيها الكثير من الحديث وقتها مثل القرميد المجوف والأجر الملآن وكانت لمنازلهم ميزات خاصة فتبادرك السقيفة ثم الصحن الواسع (حيث توجد عدة غارسات مثل الياسمين والفل والنارنج والقرنفل والحبق والورد والحناء والنسري...) والغرف المستطيلة المتقابلة وبها السدة المبنية وتحتها المقصورة... وفوق الغرف العلي (وهو طابق أول تخزن به المواد الغذائية كالقمح والشعير والحمص والفول والزيت والزيتون والملوخية والفلفل ومصبرات الجزر واللفت والمسمى بالطرشي...)
إضافات حضارية مست المغرب العربي كافة.
لا يختلف اثنان في أن للأندلسيين إضافات حضارية أخرى مست كل بلدان المغرب العربي كذلك منها تعاطيهم لعدة فنون لعل أهمها المألوف (والموشحات) وهو عنصر أساسي في حياة الموريسكيين الذين مازالوا ينشدون نوباته الجميلة وهو الفن الذي يواصل صموده الى اليوم ويقام له ببلادنا مهرجان دولي في كبرى المدن الأندلسية التونسية أي مدينة تستور وذلك كل صائفة. وفي الميدان الغذائي هناك أنواع من الأكلات الخاصة التي جلبها الأندلسيون ومازالوا يتلذذون بها ومنها: الحلوة: مثل السفنج والمتسمنات والعجة الحلوة والمرقة الحلوة وكعك الورقة.. والمالحة: كالبناضج والكسالس والحلالم والنواصر والمقرونة البيضاء... إضافة إلى بعض المنتجات الفلاحية الأخرى كالعسل والجبن التستوري...
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأندلسيين واصلوا الاعتناء بالنسيج والخياطة والتطريز والجبة وتوابعها والكبوس الغارق والتكة والسروال الفضفاض والفوطة والبلوزة...كما أن لهم ألعابا طريفة مثل الذي زال كمصارعة الثيران والدردك والذي مازال تعاطيه موجودا مثل دق المغزل والخاتم وديما ديفو وغميض غزال وعملة ياباتيس.. ولهم عادات خاصة في الأفراح وتقاليد مختلفة في الاتراح فالعرس يدوم أكثر من أسبوع ومن عناصره الأساسية: القفة، التعليقة، الفرش، الجنة، الحمام، الصبايا، الحجامة، المرواح، الصباح، السابع.
وفي الاتراح مواكب قبل الدفن وبعده وفي المنزل والشارع والجامع والمقبرة على امتداد ثلاثة أيام تنشطها الفرق الطرقية بقصائد طريفة تخفف اللوعة والأسى تمهيدا إلى العودة إلى الحياة العادية تدريجيًّا..
عودة الأندلسيين للحياة العادية هي عودة أيضًا ممن ذهب للأندلس ضمن آلاف جنود الشمال الإفريقي (من العرب والبربر أساسًا) بفتح منطقة هامة من جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية (اسبانيا والبرتغال) بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير والامتزاج النسبي مع السكان المحليين في منطقة الأندلس التي قوي بها النفوذ العربي الإسلامي عسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وعمرانيًّا حيث أسسوا مدنا مثل: غرناطة وقرطبة وأشبيلية وبلنسية وقشتالية وطليطلة وباجة وبلد الوليد وبنو الجسور والقصور وعمّروا الأراضي البور.
واليوم يمثل الميراث الأندلسي جزءًا لا يتجزأ من الميراث المغاربي والإسلامي، بعد أن ذاب وانصهر ضمن منظومة مورثونا، ولا شك أن الاحتفال بمرور المئوية الرابعة وتنظيم ملتقى دولي بتونس أتاح فرصة للحاضرين حتى يطلعوا على بعض تجليات الجهد الهادف إلى وضع سياسة متكاملة لصيانة والترميم والتوظيف في محاولة لإنقاذ هذا التراث المتميز الذي ما زال مقاومًا وشاهدًا على تلك المرحلة.
المصدر: جريدة المدينة
الأندلسيون في تونس
ومن بين الوجهات التي قصدها المهاجرون الأندلسيون (أو الموريسكيون) بلاد المغرب العربي أي أساسًا المغرب الأقصى والجزائر وتونس وقد بلغ عددهم في تونس ما يناهز ثمانين ألف سنة 1609 وقد سهل لهم عثمان داي (باي تونس) ثم يوسف داي السكنى حيث شاءوا ورحّب بهم السكان التونسيون وأوسعوا لهم فأسسوا عدة قرى ومدن يقارب عددها العشرين منها، بعض الأحياء بتونس العاصمة ومدينة بنزرت (حندلس) إضافة إلى رأس الجبل ورفراف والعالية والماتلين وقلعة الأندلس بشواطئ بنزرت وسليمان وقرمبالية وتركي بالوطن القبلي وقربها زغوان أما بحوض نهر مجردة فقد أسسوا الجديدة والبطان وطبربة وقريش الوادي قرب مجاز الباب والسلوقية وتستور وهي أكبرها وأكثرها محافظة على الموروث الحضاري الأندلسي المادي واللامادي (أو المعنوي)، وأول من حل بتونس كان منهم رجال علم وثقافة واستوطنوا أساسا العاصمة إلا أن الذين ذهبوا بعدهم كانوا من الصناعيين (الخزف والشاشية (الطربوش) والشعر والجلود والحلي وآلات الفلاحة كالمحاريث والناعورات ووسائل النقل كالعربات المجرورة والدفعة الأخيرة معظمها من المتعلقين بالأرض أي من الفلاحين وقد كانت لهم إضافات عديدة في هذا الميدان خاصة طرق الري وجلبوا مشاتل جديدة أو محسنة تتعلق أساسا بالزعفران والمشمش والرمان والسفرجل والزيتون والنارنج والتوت والخوخ والتفاح والأجاص، ومن ناحية أخرى استعملوا تقنيات في التعمير والبناء فيها الكثير من الحديث وقتها مثل القرميد المجوف والأجر الملآن وكانت لمنازلهم ميزات خاصة فتبادرك السقيفة ثم الصحن الواسع (حيث توجد عدة غارسات مثل الياسمين والفل والنارنج والقرنفل والحبق والورد والحناء والنسري...) والغرف المستطيلة المتقابلة وبها السدة المبنية وتحتها المقصورة... وفوق الغرف العلي (وهو طابق أول تخزن به المواد الغذائية كالقمح والشعير والحمص والفول والزيت والزيتون والملوخية والفلفل ومصبرات الجزر واللفت والمسمى بالطرشي...)
إضافات حضارية مست المغرب العربي كافة.
لا يختلف اثنان في أن للأندلسيين إضافات حضارية أخرى مست كل بلدان المغرب العربي كذلك منها تعاطيهم لعدة فنون لعل أهمها المألوف (والموشحات) وهو عنصر أساسي في حياة الموريسكيين الذين مازالوا ينشدون نوباته الجميلة وهو الفن الذي يواصل صموده الى اليوم ويقام له ببلادنا مهرجان دولي في كبرى المدن الأندلسية التونسية أي مدينة تستور وذلك كل صائفة. وفي الميدان الغذائي هناك أنواع من الأكلات الخاصة التي جلبها الأندلسيون ومازالوا يتلذذون بها ومنها: الحلوة: مثل السفنج والمتسمنات والعجة الحلوة والمرقة الحلوة وكعك الورقة.. والمالحة: كالبناضج والكسالس والحلالم والنواصر والمقرونة البيضاء... إضافة إلى بعض المنتجات الفلاحية الأخرى كالعسل والجبن التستوري...
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأندلسيين واصلوا الاعتناء بالنسيج والخياطة والتطريز والجبة وتوابعها والكبوس الغارق والتكة والسروال الفضفاض والفوطة والبلوزة...كما أن لهم ألعابا طريفة مثل الذي زال كمصارعة الثيران والدردك والذي مازال تعاطيه موجودا مثل دق المغزل والخاتم وديما ديفو وغميض غزال وعملة ياباتيس.. ولهم عادات خاصة في الأفراح وتقاليد مختلفة في الاتراح فالعرس يدوم أكثر من أسبوع ومن عناصره الأساسية: القفة، التعليقة، الفرش، الجنة، الحمام، الصبايا، الحجامة، المرواح، الصباح، السابع.
وفي الاتراح مواكب قبل الدفن وبعده وفي المنزل والشارع والجامع والمقبرة على امتداد ثلاثة أيام تنشطها الفرق الطرقية بقصائد طريفة تخفف اللوعة والأسى تمهيدا إلى العودة إلى الحياة العادية تدريجيًّا..
عودة الأندلسيين للحياة العادية هي عودة أيضًا ممن ذهب للأندلس ضمن آلاف جنود الشمال الإفريقي (من العرب والبربر أساسًا) بفتح منطقة هامة من جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية (اسبانيا والبرتغال) بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير والامتزاج النسبي مع السكان المحليين في منطقة الأندلس التي قوي بها النفوذ العربي الإسلامي عسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وعمرانيًّا حيث أسسوا مدنا مثل: غرناطة وقرطبة وأشبيلية وبلنسية وقشتالية وطليطلة وباجة وبلد الوليد وبنو الجسور والقصور وعمّروا الأراضي البور.
واليوم يمثل الميراث الأندلسي جزءًا لا يتجزأ من الميراث المغاربي والإسلامي، بعد أن ذاب وانصهر ضمن منظومة مورثونا، ولا شك أن الاحتفال بمرور المئوية الرابعة وتنظيم ملتقى دولي بتونس أتاح فرصة للحاضرين حتى يطلعوا على بعض تجليات الجهد الهادف إلى وضع سياسة متكاملة لصيانة والترميم والتوظيف في محاولة لإنقاذ هذا التراث المتميز الذي ما زال مقاومًا وشاهدًا على تلك المرحلة.
المصدر: جريدة المدينة
0 commentaires :
Post a Comment