--------------- - - -

Dec 12, 2009

رحلة الوزير الغساني إلى بلاد الإسبان

محمد المنسي قنديل

البلاد التي رحل منها:
عندما شرع الغساني في رحلته إلى أسبانيا كان يعتقد أنه ينتقل من مخزن إلى مخزن آخر. والمخزن هنا ليس تعبيرًا رمزيًا أو تشبيهًا بلاغيًا، ولكنه كان واقعًا فعليًا يطلق على المدن والأقاليم التي تخضع لسلطان الغرب. تلك المدن التي يستطيع أن يحيطها بسوره ويحشد فيها جنوده ويجبوا منها ضرائبه. أما بقية المدن والقرى فكانت سهولا سائبة تخضع لسطوة قبائل الرعاة من بقايا بني هلال.

كانت دولة المغرب الكبير قد انهارت مع زوال سطوة الموحدين. وأصبحت هناك ثلاثة كيانات كبرى تشبه الموجودة حاليا، ولكن كل كيان منها كان منقسما إلى مدن وإقليم أصغر. وفي الوقت الذي كانت فيه أوربا تضم أشلاءها وتواجه القرن السابع عشر كدول كبرى متوحدة تسعى لا كتشاف العالم واحتلاله كان العالم العربي يواصل التفتت ليتحول إلى دول بهية وسنية ومنصورة وكل ما شاءت من صفات لا تملك منها شيئا، أقاليم بلا شخصية تنزلق تدريجيا تحت نير الحكم العثماني.

كان المخزن المغربي سيفا وقلما - على حد تعبير عبدالله العروي - في كتابه الموجز والغريب (مجمل تاريخ المغرب). السيف هو الذي يبقيه حيّا، والقلم هو الذي يعطيه شرعيته المفتقدة. وكان الغساني ينتمي إلى واحدة من جماعات ثلاث كانت تؤلف شكل الغدارة داخل المخزن، الأولى كانت جماعة الوزراء أو الحجاب الذين يحتلون أرفع المناصب وأعدادهم قليلة - اثنان وربما ثلاثة - ومهامهم هي خليط من الوزارة والحجابة يشيرون على السلطان بما يروقه ويقومون بتنفيذ نزواته كأنها أمر إلهي، أما المجموعة الثانية فهم(الكتّاب) الذين يسجلون أوامر السلطان في رسائل ويذيعونها بين الناس بحيث تكتسب صفتها الرسمية، وكان الغساني في أول الأمر واحدًا من هؤلاء الكتبة وقد أهّله إلى ذلك مهارته وسرعته وحسن حظه. ثم استطاع بعد ذلك أن ينتقل بجهده العقلي إلى رتبة الجماعة الأولى أي ليصبح واحدًا من الوزراء.

والثالثة كانت جماعة الجند، تلك التي تنفذ أوامر السلطان بالقوة وهي التي تحمي مخزنه وتقوم بجباية ضرائبه وضمان الولاء له. وهم غالبا ما يكونون من بقايا أعراب قبيلة بني هلال الذين هاجروا من الصحراء العربية في زمن القحط، ووفقا للنمط القديم كانت الدولة تبعد فلاحيها وصانعيها عن مواطن القوة، وتعتمد على المحاربين المحترفين الذين لا يدينون بالولاء إلا لمن يدفع لهم رواتبهم.

وقد شهد عصر الغساني تبلور الصراع بين أوربا المسيحية في الشمال، وبين العرب المسلمين في الجنوب، ورغم مرور سنوات طويلة على سقوط الأندلس فلم يكن أحدهما قد نسي ثأره بعد، وزاد من حدة هذا الصراع أن الدولة العثمانية لم تكن قد انهت حروبها في أوربا بعد، ففي الوقت الذي بدأ فيه الغساني رحلته، كانت القوات التركية تحاصر بلجراد من أجل استعادتها من جديد، وكان الأندلسيون الذين تم طردهم من أسبانيا قد استوطنوا في مدن المغرب مثل تونس وبجباية وتلمسان وفاس يثيرون المشاعر القوية بالارض الضائعة، وقد حولوا (فاس) إلى مدينة للعلم والحلم. فقد كان بينهم العلماء والكتبة والمفكرون الذين جددوا الثقافة المغربية التقليدية وأضافوا تقاليد جديدة لنظم الحكم فيها، ولكنهم ظلوا متمسكين بحلمهم في العودة إلى الأندلس، وظلت الاسر الكبيرة تحتفظ بمفاتيح بيوتها في المدن الضائعة ويورثونها لأبنائهم على أمل أن يجدوا هذه البيوت في انتظارهم يوما ما، ومن المثير للأسى أن هذا هذا الأمر يتكرر مع بعض اللاجئين الفلسطينيين الذين مازالوا يحملون مفاتيح بيوت فلسطين ويوقنون أن معجزة ما سوف تحدث وتنقذهم من مخيماتهم البائسة، ولا ندري من سيحمل المفاتيح بعد ذلك؟

وإزاء هذا التفتت والضعف الذي كانت تشهده المغرب، فقد كان الصراع بين الجنوب المسلم والشمال المسيحي يميل دائما لكفة الأخير خاصة بعد أن انتشرت السفن الغربية في البحار - وخاصة الأسبانية والبرتغالية ثم البريطانية - وتسيّدتها وأصبحت تهدد الشواطئ المعمورة وتحتل الثغور كلما عن لها ذلك.

وتعد مدينة العرائش ـ التي كانت سببا من أسباب رحلة الغساني إلى أسبانيا ـ خير شاهد على ذلك. فقد كانت السفن البرتغالية هي أول من فطنت إلى أهمية هذه المدينة المغربية الساحلية وقامت باحتلالها وتحصينها، وخاض السلطان المغربي (أحمد المنصور الذهبي) كفاحاً مريرًا حتى استطاع أن يستردها من أيديهم خلال القرن الخامس عشر، وخوفا من أن تقع المدينة مرة أخرى قام السلطان بتحصينها بالأسوار السميكة والعالية، ولكن الغريب في الأمر أن سلطانًا مغربيًا آخر هو (محمد الشيخ) قام بتسليمها إلى الأسبان دون أي معركة ولكن وفق معاهدة ثنائية - تماما كما فعل أهل غرناطة - بدعوى إعادة إعمارها والمحافظة عليها، واستلزم الأمر قتالا طويلاً آخر حتى يستطيع سلطان مغربي ثالث هو المولاي اسماعيل العلوي أن يمحو خطأ السلطان السابق ويسترد المدينة عام 1689م.

ويبدو أن المعركة كانت بالغة العنف، فقد بلغ عدد الأسرى من الحامية الأسبانية حوالي 500 جندي، ومن هنا جاءت فكرة السلطان في مبادلة الأسرى الذين وقعوا تحت يده بأسرى المسلمين الذين كانوا موجودين في الأراضي الأسبانية.

وكما يلاحظ نوري الجراح في مقدمته لرحلة الغساني أن قضية الأسرى المغاربة وبقية الأندلسيين الذين بقوا في الأندلس على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمن قد شغلت الرأي العام الغربي، وكانت المعارك التي لم تهدأ سواء في البحر أو البر قد خلفت نوعًا من الجراح من الصعب اندمالها، وقد تعدت هذه المسألة كلا من المغرب وأسبانيا وانتقلت إلى اهتمامات البابوية في روما والباب العالي في الأستانة. ومن المؤكد أن المولى اسماعيل كان من السلاطين المغاربة القلائل الذين استطاعوا الوقوف في وجه النزاعات الاستعمارية الأسبانية. وتمكن من التعامل بندية مع قوتهم البحرية التي كانت تتحكم في حركة الملاحة في البحر المتوسط. وأقام نوعًا من التوازن الحرج من خلال سفاراته المستمرة مع لويس الخامس عشر ملك فرنسا، بل يقال إنه قد عرض عليه أن يتزوج ابنته من أجل تقوية العلاقات بينهما. ويعد إرساله لسفارة الغساني دليلا على هذا الشعور بالقوة والندية

الرجل الذي رحل
هو الوزير محمد بن عبدالوهاب الأندلسي الفاسي المتوفى عام 1757ميلادية واسمه كما نرى يلخص تاريخ عائلته. فهو ينحدر من سلالة الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس بعد أن تساقطت ثغورها واستقروا في فاس. وحملوا معهم قدرًا كبيرًا من العلم بالتراث العربي. وكان ماهراً في نسخ المخطوطات في سرعة لا يضاهيها فيه أحد. وأهّله ذلك إلى أن ينضم إلى كتاب المخزن. فقد رحل من فاس إلى مكناس ليكون بالقرب من المولى إسماعيل العلوي الذي كان نجمه صاعدًا. وقد لفتت مهارته نظر السلطان على الفور لأنه كان نجيبا في ذلك. وذكر أنه كان كل ما يلقى من أوامر يكتبها ويستوفيها ولا يعزب عنه شيء منها مع كثرتها.

من أجل هذا قربه السلطان فصار وزيرًا، ثم اختاره من أجل بعثة إلى بلاد الفرنجة، وكان للرحلة هدفان أولهما إنساني ويتعلق بمبادلة الأسرى. فقد كان السلطان يريد أن يبادل500 أسير الذين أسرهم بعد موقعة العرائش مع العديد من الأسرى المسلمين وبقايا أسر الموريسكيين أي العرب الذين بقوا في الأندلس بعد سقوطها وأرغموا على اعتناق المسيحية، وثاني أهداف البعثة كان ثقافيًا وهو استعادة مخطوطات السلطان المولى زيدان سلطان مراكش، الذي كان عاشقًا للكتب والمخطوطات، ومن شدة خوف هذا السلطان على مكتبته الثمينة من أن تقع في أيدي القبائل التي كانت تهاجم مدينته، وضعها على إحدى السفن حتى ينقلها إلى مدينة أغادير، وبينما كانت السفينة في وسط المسافة بين آسفي وأغادير أغارت عليها سفن القراصنة الأسبانية، واستولت على حمولتها بما فيها من كتب ونفائس، لقد تبددت النفائس بطبيعة الحال، ولكن المخطوطات التي بلغ عددها خمسة آلاف ذهبت جميعًا إلى مكتبة الاسكوريال الشهيرة. وكان انقاذ هذه المخطوطات من الأسر هو هدف الرحلة الثاني.

ولا يصدق المستشرق الروسي المعروف كراتشكوفسكي هذه الأهداف المعلنة، ويشكك في أن رحلة الوزير قد نجحت في تحقيقها. ويرى أن الهدف الرئيسي كان هو محاولة من الوزير لعقد صلح بين السلطان المغربي والوزير الأسباني. وحتى إن كان الأمر كذلك فهذا لاينفي شرعية الأهداف المعلنة لأن أي معاهدة للصلح لابد أن يستتبعها استعادة الممتلكات واستعادة الأسرى ورغم هذا الهدف السامي لرحلة الغساني إلا أن الكثير من مقاطع كتابه توحي أنه هو أيضا كان أسيرا بشكل أو بآخر، اسيرا لسطوة السلطان المطلقة التي كانت تحتم عليه فعل المستحيل من اجل نيل رضاه حتى وهو بعيد في بلاد الاسبان، أسير لأسوار المخزن وشراسة الجند وخائف لحد الرعب من سجون المولاى إسماعيل التي كانت تمتد مثل قبو بالغ الاتساع تحت ارض مدينة مكناس، وهو مازال باقيا حتى الآن ورغم أنه تحول إلى مزار سياحي فهو لم يفقد شيئا من رهبته.

ولكن مما لاشك فيه أنها رحلة أخرى تضاف إلى رصيد المغرب الذي خرج منه أشهر الرحّالة العرب أمثال ابن بطوطة وابن جبير والتيجاني وغيرهم. ولعل ازدهار هذا النوع الأدبي في المغرب بالذات فرضه موقع هذا البلد في أقصى العالم العربي، الأمر الذي جعل من الوصول إلى المركز حيث يوجد بيت الله الحرام وقبر رسوله الشريف واحدا من الأهداف والأحلام التي تدفعهم للرحيل الدائم. ولكن رحلة الغساني كانت مختلفة في الغرض والاتجاه عن رحلات الحج السابقة، إنها رحلة سفارية كما يطلق عليها د.محمد الفاسي الباحث المغربي، فالغرض منها كان القيام بسفارة لدى دولة أجنبية. وكان يقوم بتدوينها السفير نفسه إذا كان من أهل العلم والأدب - مثل حالة سفيرنا الغساني - أو يترك هذا الأمر لواحد من أتباعه. ولعل أشهر رحلة في هذا الغرض نفسه هي رحلة ابن فضلان إلى بلاد الشمال والتي قام بها بناء على أمر من الخليفة العباسي المقتدر بالله وقد تحوّلت إلى فيلم سينمائي عالمي تحت عنوان (المحارب الثالث عشر)

وقد سجل الغساني تفاصيل هذه الرحلة في كتاب (رحلة الوزير في افتكاك الأسير) وغطت فترة عام كامل من عام 1690 إلى 1691 ويشوب الغموض الكثير من رحلة الغساني، فهي تنتهي فجأة وهو في طريق عودته، فبعد أن يتم سفارته ويقابل الملك الأسباني نراه وقد أنهاها عند إحدى القرى المجاورة لمدينة طليطلة أو توليدو كما يطلق عليها الآن. لا يذكر الغساني شيئًا بعد هذه النقطة من رحلته رغم أنه يواصل الكتابة ولكن في موضوع آخر. ولعل طليطلة التي كانت منطلقًا لملوك العجم من أجل استرداد الأندلس وقد سقطت قبل نصف قرن من سقوط بقية المدن قد أثارت في نفس الغساني ذكريات الفتح الأول، لذلك ترك تدوين وقائع عودته وأخذ يتحدث عن وقائع الفتح بالتفصيل واللقاء الذي جمع بين طارق بن زياد وموسى بن نصير ثم الخلاف الخلاف الذي دب بينهما وكيف حاول كل واحد منهما أن ينسب الفتح لنفسه.

ويشوب الغموض أيضا النتيجة التي توصلت إليها رحلة الغساني، فنحن نعرف منه بطريقة غير واضحة أن ملك أسبانيا قد قبل صفقة تبادل الأسرى - خوفا ورهبة من رسالة السلطان المغربي على حد تعبيره - ولكنه لا يتابع تفاصيل إتمام هذا الأمر، ولا نعرف شيئا عن جمع هؤلاء الاسرى أو ترحيلهم، أما بالنسبة للهدف الثاني فقد قام المسئولون الأسبان بأخذه إلى مكتبة الاسكوريال وجعلوه يرى بعينيه آثار الحريق الذي التهم كل ما في المكتبة من كتب ومخطوطات وكيف طالت النيران حتى أخشاب السقف. وقد اقتنع الغساني كما يبدو بهذه الحجة ولم يثر الموضوع مرة أخرى.

وقد تبين فيما بعد أن حوالي ثلاثة آلاف مخطوط منها كانت موجودة في أقبية الدير لم تمسسها النار. وقد أصبحت هذه المخطوطات فيما بعد هي نواة مكتبة الاسكوريال التي تعتبر الآن أكبر مكتبة تحتوي على المخطوطات الإسلامية في العالم.

ولكن التحوّل الفكري الذي أحسّ به الغساني بعد انتهاء الرحلة كان واضحًا وجليًا، فقد بدأ الرحلة وهو يعتقد أنه ذاهب إلى مخزن آخر مثل الذي خرج منه ولكنه اكتشف أنه أمام دولة جديدة الطراز لم يعاين مثلها. أسوارها حول حدودها الخارجية وليس داخلها. وتعيش مرحلة مهمة من تحولها تنمو فيها بذور مؤسسات المجتمع المدني الحديث مثل البريد والصحافة والمستشفيات المتخصصة.كما أن إحساسه كواحد من أحفاد أهل الأندلس الضائع قد تغير أيضا. فقد بدأرحلته إلى أسبانيا وهو يعتقد أنها إحدى ديار الإسلام الضائعة وسوف يعيدها الله - طال الزمن أو قصر - إلى الإسلام مرة أخرى. ولكنه فوجئ أنه أمام دولة مختلفة تماما. لم تعد تتطلع إلى الوراء تتدفق عليها أكداس من ذهب العالم الجديد. ويحكم ملوكها أجزاء كبيرة من المعمورة وتجوب سفنها بحار الدنيا السبع.

ولم ينس الغساني أن يستخدم ذكاءه وأن يقدم بطريقة غير مباشرة صورة للملوك الأسبان في حياتهم اليومية لعله بذلك يبعث برسالة إلى سلطانه المغربي الذي كان حاكمًا مطلقًا يصف فيها تفاصيل طقوس يوم القيامة وكيف يقوم الملك بدعوة ثلاثة عشر رجلا من الفقراء إلى قصره - وهو نفس عدد الحواريين الذين حضروا العشاء الأخير مع المسيح ـ ويقوم الملك بخدمتهم بنفسه ويقدم لهم الطعام ثم يقوم بغسل أقدامهم جميعًا وتنشيفها ثم يقبلها قدما...قدما. لقد صور الغساني صورة مدهشة لتواضع الملوك حتى ولو تم ذلك مرة واحدة في العام، هل كان من الممكن للسلطان المغربي أن يقوم بطقس قريب من هذا؟

لقد أحسن السلطان المغربي اختيار السفير الذي أرسله. فهو ليس مثقفا وأديبا وعالما بالتاريخ، وليس وزيرًا عارفًا بتفاصيل الصراعات الدولة والتناقضات بين الدول الأوربية فقط، ولكنه - على حد تعبير نوري الجراح - يبتعد عن كل تلفيق أو تحامل أو تزوير، ويتميز بأمانة كبيرة وروح متسامحة في فترة عصيبة من الصراع الإسلامي مع الغرب سادت خلالها أوربا روح التعصب الأعمى الذي لم يسلم من شروره حتى المسيحيون أنفسهم في محاكم التفتيش.

مخطوط الرحلة
يبدو كتاب رحلة الوزير في افتكاك الأسير أحيانا مثل تقرير مطول كتبه الوزير الغساني ليرفعه إلى أعتاب مولاي اسماعيل سلطان المغرب عن نتائج رحله لم تكن كبيرة النتائج. وقد اعتمدت هذه الدراسة على الطبعة التي أصدرتها دار السويدي في إطار مشروع ارتياد الآفاق وقام بتحريرها وكتابة مقدمة جيدة لها الشاعر نوري الجراح. وقد اعتمد هو بدوره على نسخة أقدم عمرًا حققها الفرد بن جرجس بن شبلي البستاني ونشرها في تطوان بالمغرب عام 1939مستندًا إلى ثلاث مخطوطات ناقصة، والبستاني مستغرب لبناني كان يجيد الأسبانية وقد عمل متعاونا مع قوات الجنرال فرانكو التي كانت تحتل المغرب.

لم ينشر البستاني نص الرحلة كاملا ولكنه حذف منه فصلا كاملا أعتقد فيه أن الغساني قد انتقد فيه العقائد المسيحية.

ولكن هذه الرحلة لم تكن مجهولة قبل ذلك التاريخ.فقد خلط الكثير من المؤرخين بينها وبين رحلة قام بها مؤرخ آخر هو أحمد بن المهد الغزال ومن الواضح أنها كانت رحلة سفارية أخرى، ولكن الذي أعطى هذا المخطوط حقه بقدر هو المستشرق المعروف أغناطيوس كراتشكوفسكي الذي تحدث عنها بالتفصيل في كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي، وهو يصف الغساني قائلا ((من اتجاهه العام يبدو كعالم أثنوجرافي واجتماعي أكثر منه مؤرخا. فهو يهتم قبل كل شيء بوصف الأخلاق والعادات والنظم وفي هذا المجال قد تفوق معطياته أحيانا الأوصاف الأوربية المعاصرة له)).

البلاد التي رحل إليها

بدأت رحلة الغساني إلى إسبانيا يوم 19 أكتوبر 1609من مرسى جبل طارق. وتعرضت مثل العديد من الرحلات إلى مصاعب في الطقس أجلت ابحارها لعدة أيام. وكانت الخطوة الأولى هي من جبل الفتح أول مكان وطأته أقدام طارق بن زياد وهو يستعد لغزو بلاد العدوة، ولكن الغساني رآها وقد أصبحت حصنا منيعا تسكن فيها حامية عسكرية أنظارها موجهة باستمرار ناحية الشاطئ المغربي حيث من المتوقع أن تأتي الهجمات، ولكن المفاجأة أن الهجمة جاءت عبر القنال الإنجليزي عندما احتلت بريطانيا هذا الجبل بعد رحلة الغساني بأربعة عشر عاما فقط أي في عام 1704م.

سار الغساني بطول الساحل الإسباني بسفينته ولم يهبط إلى البر إلا في ميناء قادش وهناك كان في انتظاره استقبالان. أحدهما رسمي يتمثل في حاكم المدينة. والآخر شعبي يتمثل في عشرات الأسرى الذين كانوا ينتظرون من يفك أسرهم. كانوا مطلقي السراح ولكن حالتهم كانت بائسة ويقومون بأحط الأعمال، كما كانو عرضة للسخرية خاصة من جانب الاطفال الاسبان كما لاحظ الغساني ذلك بنفسه. ولا بد أن الحاجة إلى طاقتهم في الأعمال الوضيعة هي التي جعلتهم مطلقي السراح هكذا. فقد كانت قادش في هذا الوقت هي الميناء الرئيسي الذي يتدفق منه الذهب القادم إلى العالم الجديد ويخلق فيها حالة من الدعة والرفاهية جعلت الأسبان يأنفون من القيام بهذه الأعمال.

اكمل الغساني رحلته برا متوجها إلى الشمال، إلى مدريد. واتاح له هذا أن يشاهد عشرات البلاد والقرى وأن يراقب طقوس الزرع والاستسقاء وأن يستمع إلى الأغاني ويشاهد الرقصات وأن يقابل بقايا الأندلسيين واليهود وهم يحاولون عبثا إخفاء جذورهم القديمة وإظهار الاخلاص لحياتهم ودينهم الجديدين. كما اجتاز العديد من غابات من الزيتون، وهي في اعتقادي واحدة من أعظم الآثار التي تركها المسلمون في الأندلس، لقد أحضروا غرس هذه الشجرة المباركة من وديان الشام، كما احضروا فسائل النخل من صحراء العرب، وابتكروا السواقي التي ترفع المياه من قيعان الوديان إلى أعلى التلال وحولوا الهضاب القاحلة إلى غابات من الزيتون مازالت مزدهرة حتى الآن.

وفي قرطبة يقابل الغساني أسيرًا من نوع آخر، إنه يقف مشدوها أمام مسجدها الكبير الذي تشوهت عمارته وتحول قسرا إلى كنيسة. وهي رؤية تثير الأسى في نفسه وتجعله يستحضر تاريخ هذا المسجد الكبير الذي كان مجرد حلم في صدر عبدالرحمن الداخل وهو يسعى هاربا من مطاردة بني العباس ناذرا لله إن مكنه في الأرض أن يبني له أكبر مسجد يمكن ان تشهده عين بشر، يستمع الغساني إلى كل الأصداء القديمة وهي تتردد في جنبات المسجد، مزيج الأدعية والابتهالات واستغاثات ما قبل السقوط.، يراقب الصلبان التي تعلو، والأبهاء وهي تأفل والأجراس وهي تدوي من أعلى المنارة بدلا من صوت الأذان.

وفي بلدة (الكاربي) يقابل الغساني وجها آخر حزينا من بقايا الأندلسيين. إنهم أحفاد بنو سراج الذين اختلفوا مع آخر ملوك غرناطة ابو محمد الصغير فخرجوا عليه وأعلنوا تنصرهم وانضموا للفرنجة وساهموا في حصار المدينة حتى سقطت، والمدهش أن أحفادهم ظلوا يلعبون على هذا الحبل الرفيع.

فلم يصبحوا مسيحيين مخلصين وظلت مواطنتهم الأسبانية ناقصة، لقد توارثوا إرث الخيانة وذنبها جيلا بعد آخر. وهو يتأكد من ذلك عندما يزور مدينة مسلمة أخرى، أو بالأحرى تأخر تنصرها واسمها (مورا) وقد وجد أهلها يزرعون العنب بكثرة ولا يكفون عن عصره وتخميره وشربه كأنهم يدفنون في الخمر كل الذكريات التي لا يستطيعون مواجهتها.

بهذه الوتيرة تسير رحلة الغساني، متأملا في أحوال الناس والمكان الطبيعة، باكيا على آثار الأندلسيين مندهشا من العادات والسلوكيات التي لم يعاينها من قبل، حتى يصل أخيرا إلى مدريد.

كانت مقابلة الغساني مع الملك الإسباني ـ والذي أصر على أن يطلق عليه لقب الطاغية وأن يدعو بهلاكه هو وأمثاله من على وجه الأرض قصيرة وموجزة، اقتصرت على تسلم خطاب السلطان المغربي وتبادل معه بعض كلمات المودة. ثم تركه لينعم بالضيافة والتأمل ريثما يأتيه الرد على الخطاب الذي حمله..

وكانت هذه فرصةالغساني الكبرى ليتابع مظاهر الحياة في إسبانيا الجديدة. ولعل اولها هي مظاهر الثراء التي ظهرت من جراء اكتشاف أمريكا أو الأرض الجديدة، وظهور الأشكال الأولى من تنظيمات الدولة الأوربية الحديثة مثل البريد والصحافة والخدمات الصحية المختلفة. كما راقب الرياضات التي يقوم بها الإسبان مثل التزلج على الجليد في الشتاء ومصارعة الثيران في الأعياد. وكانت المصارعة في ذلك الوقت لا يقوم بها مصارعون محترفون وإنما يقوم بالتصدي للثيران كل من يجد في نفسه الشجاعة.

ويشرح الغساني بعضا من مكائد البلاط الإسباني ويقوم بزيارات عديدة لأسواق مدريد ويوشك الهدف الأساسي لرحلته أن يضيع حتى يتذكره أخيرًا. لقد استلم منه الملك الرسالة وأعطاها لمترجمه النصراني الحلبي حتى يترجمها له. وقد سببت له كلمات السلطان اضطرابا كبيرًا على حد تعبير الغساني فلم يجد بدًا من الامتثال لأمره المطاع وأخذوا في جمع الأسرى أما الكتب فقد أخذوه في رحلة الأسكوريال الشهيرة يحث شاهد آثار الحريق واقتنع بضياع الكتب.

وفي يوم 20 من أكتوبر عام 1691 يغادر الغساني مدريد بعد أن انتهت مهمته ويطوف بالعديد من القرى حتى يدخل مدينة طليطلة الباهرة. وهنا كانت نهاية المطاف رحلته مثلما كان هنا بداية الاسترداد. فقد سقطت هذه المدينة في أيدي الإسبان عام1086 م أي قبل سقوط غرناطة آخر المدن بحوالي 400 عام ومع ذلك لم ينتبه أحد إلى نذر الكارثة القادمة فلله الأمر من قبل ومن بعد.

ملاحظات حول الرحلة
1 - كان الغساني رجلا دائم الاندهاش. وهذه إحدى خصال حب المعرفة. من الواضح من كتابه أنه لم يكن يكن يكتفي بالملاحظة بل أيضا لم يتعال عن السؤال. لذا فقد جاءت رحلته مزيجا من الملاحظات الذكية وتجميعا للمعلومات التي استقاها من مصادرها. ومن المؤكد أنه كان يعرف الإسبانية بشكل جيد لأن أحاديثه مع المسئولين الإسبان لم تجد عائقا لغويا يقف في سبيلها. ورغم أن جولته كانت وسط الدوائر الدبلوماسية إلا أن هذا لم يمنع نظرته الثاقبة من النفاذ إلى أرض الواقع الإسباني.

2 - كانت الأسوار هي أولى مثار دهشة الغساني، ففي قادش اكتشف أن المدينة لا يحدها إلا سور واحد هو الذي يواجه البحر أما في الداخل فلا توجد أسوار، وفي تطوافه في العديد من القرى والمدن وجد أنه لا توجد أي أسوار. بل إن الأسوار القديمة التي تهدم لا يقام بدلا منها. على العكس من الأندلس القديم ومن دول المخزن الذي جاء منه حيث تحاط كل مدينة بسور ضخم مازالت آثاره باقية حتى الآن. لقد كان الغساني يرى دولة مفتوحة على بعضها. أعداؤها لا يأتون إلا من الخارج وليس من الداخل. لم تكن مجرد مخزن محاصر ولكنها كانت عالما يموج بالحركة. ولم يكن يحكمها ملوك الطوائف ولكن كانت لها حكومة مركزية واحدة وملك واحد.

3 - لاحظ الغساني بعمق أثر اكتشاف أمريكا على الحياة في إسبانيا. وحتى لحظة رحلته ورغم مرور حوالي مائتي عام على اكتشاف أمريكا فقد كان الغساني يعتقد أنها جزء من بلاد الهند مليء بالغنائم والكنوز. ويرصد الغساني كيف أن هذا الذهب المتدفق من الأرض الجديد قد جعل أهل إسبانيا يركنون إلى حياة الترف والخمول. فلم يعودوا يعملون أو يسافرون للتجارة كما تفعل بقية الأجناس الأوربية. بل إنهم تركوا الحرف والأعمال الوضيعة إلى غيرهم كالفرنسيين الذين كانو يعانون من ضيق الرزق في بلادهم ولم يجدوا بدًا من الهجرة إلى إسبانيا للقيام بهذه الأعمال.

4 - يرصد الغساني أيضا أحد مظاهر التعصب الديني التي نشأت في أعقاب سقوط الأندلس هي محاكم التفتيش الذي اصطلى بناره بقايا المسلمين واليهود وكان يتم إخضاعهم للتعذيب البدني والجسدي حتى يتم تنصيرهم أو إحراقهم. وعندما كان الغساني في مدريد كان أتباع هذه المحاكم وهم رجال الدين من الأنكسيشين يثيرون جوًا من الإرهاب في كل المدن. ويكفي أن يشي جار بجاره على أنه مسلم أو يهودي حتى يتم القبض عليه وتعريضه للتعذيب وقد شاهد الغساني بنفسه سقوط أحد كبار المستشارين لدى ملك إسبانيا حين اتهمه البعض باعناق اليهودية وتم القبض عليه وتعذيبه ولم يستطع أن ينقذه أحد حتى الملك نفسه.

5 - وأكثر ما أثار دهشة الغساني خلال الأيام التي قضاها في مدريد هو العديد من مظاهر الدولة الحديثة مثل المستشفيات الحديثة التي توفر للمريض العلاج في جو غاية من النظافة الصحية وهو يشهد لممارسي هذه المهنة بأنهم أحسن جنسهم أخلاقا وتواضعا. وكذلك بريد الجمعة الذي ينظم حركة الرسائل من كل البلدان المختلفة والمتباعدة لقاء أجر معروف بل وأصبحت هناك محلات متخصصة للقيام بهذا الأمر. وعن طريق هذه الرسائل عرف الغساني كل أخبار أوربا بعد فترة طويلة من وقوعها.

الصحافة أيضا كانت تشهد أيام ولادتها ولم تكن في ذلك الوقت تتجاوز قرطاسا من الورق تدون فيها الأخبار وتباع في الأسواق، ولم ينس الغساني أن يوجه لها اتهاما بالزيادة والكذب وهو اتهام مازال قائما ضد الصحافة حتى الآن.

6 - أظهرت الرحلة معرفة الغساني العميقة بالصراعات الأوربية - الأوربية. فهو لا ينظر إلى هذه الأجناس ككم واحد. ولكنه كان عارفا بالتوترات التي نشأت بين البابا من ناحية وفرنسا بسبب اتصالاتها بالترك. وبينه وبين إنجلترا التي خرجت طاعة البابا وأقامت كنيستها الخاصة. وكان يدرك كيف استطاع البابا أن يؤلب الدول الأوربية علي فرنسا وأن يقف بالقارة العجوز على حافة الحرب بل إن وعيه تجاوز ذلك أيضا ليعرف أبعاد الصراع الأوربي حول استعمار الأرض الجديدة وكيف أن هذا الأمر ينذر بحرب أخرى.

وبعد كانت هذه خلاصة رحلة ذلك الوزير المغربي العريق محمد بن عبدالوهاب الأندلسي الفاسي كما أوردها في كتابه (رحلة الوزير في اختطاف الأسير) رحمه الله ورحم كل الأسرى الذين لم تفك ربقة الأسر من حول أعناقهم حتى الآن
.
المصدر: مجلة العربي

0 commentaires :

Post a Comment

Copyright © Los Moriscos De Túnez الموريسكيون في تونس | Powered by Blogger

Design by Anders Noren | Blogger Theme by NewBloggerThemes.com