أوس داوود يعقوب
أثارت قصة دون كيشوت للاسباني ثيربانتس جدلا واسعا حول تاريخ طبعتها الأولي، وتضاربت وتعارضت آراء الدارسين القدامي والمعاصرين حول هذا التاريخ فمن المعروف ان تاريخ أول طبعة بقي مجهولا الي حدود سنة 1948 بعد ان حسم الباحث الاسباني (ج.أوليفر أسين) الامر نهائيا في الاوساط الثقافية والادبية بمقال نشره بالاعتماد اساسا علي مخطوطة محفوظة بمكتبة كساناتينس بروما من وضع الكاتب التونسي من أصول أندلسية ابراهيم الطيبلي يبين فيها ان تاريخ الطبعة الاولي يرجع الي سنة 1604م وهو ما يعني ان الطيبلي اول مكتشف للطبعة الاولي من قصة دون كيشوت .
فما هي حكاية القصة ؟ ومن هو الطيبلي؟ وما هي حكاية اكتشافه للطبعة الاولي؟ وماذا عن آثار ابراهيم الطيبلي الادبية؟ أسئلة عديدة حاول الباحث التونسي عبدالحكيم القفصي سلامة الاجابة عنها في بحث نشره في مؤلف جماعي تحت عنوان تونس اعلام ومعالم ، صادر عن المعهد الوطني والوكالة القومية للتراث أشرف عليه علميا الدكتور عبدالعزيز الدولاتلي.
حكـــــــاية القصــــة
تعتبر قصة دون كيشوت احدي روائع الادب العالمي الخالدة وقد نشر الجزء الاول القصة لثيربانتس في عام 1605 واحرز رواجا عظيما في اسبانيا وذاعت شهرته فترجم الي جميع اللغات الحية بعد ذلك بوقت قصير وطبع العديد من المرات. ذلك أن القصة فريدة من حيث مضمونها وتعد اثرا مشحونا بالسخرية الذكية والنقد اللاذع فمؤلفها يسخر ممن تستهويهم بعض المثل العليا كالشجاعة والشهامة والمروءة التي تناولتها قصص الفروسية بكثير من الخيال والتزييف. ويكذب ما جاءت به قصص الفروسية التي كانت سائدة في اوروبا زمن الاقطاع من الاساطير والسفاسف.
وقد أراد ثيربانتس من خلال قصته ان يجعل من المغامرات مواقف سخيفة، مضحكة، مذهلة وذات نتائج سيئة، فتحويل المواقف البطولية في نظر المجتمع الاسباني الي مواقف هزلية جعلت من ثيرباتس واحدا من اشهر الكتاب في النقد والسخرية وتعتبر قصته اول أثر في الادب الهزلي في العالم والأهم في الادب الاسباني.
فقصة دون كيشوت مثال رائع للفكاهة المضحكة والادب الهزلي المبني علي المتناقضات المضحكة والمفارقات السخيفة والنكت الحية والتلاعب المبدع بالكلمات والافكار والاخطاء اللفظية والتعبيرية وكذلك الحكم المأثورة وقد قام ثبربانتس في قصته هذه بنقذ لاذع لشخصيات معينة كالملك كارلوس الخامس والملك فيليب الثاني زيادة علي سخريته بالمجتمع الاسباني. كما يظهر من خلال البطلين للقصة ان ثيربانتس اراد ان يكتب عن المثالية والواقعية، مازجا الواقع بالخيال مع دقة شديدة في الجمع بين المستويات الشخصية والقومية والانسانية.
وثيربانتس مولود سنة 1557 بالقلعة ومات سنة 1616م وقد عاصر الملك كارلوس الخامس (1516 - 1556) وفيليب الثاني (1556 - 1598) وفيليب الثالث (1598 - 1621) وشهد الاحداث الدامية التي تعرض اليها الموريسكيون اواخر المسلمين المقيمين باسبانيا من تعذيب ونفي وطرد.
وتعد قصة دون كيشوت أروع آثاره الادبية فهي مثل رائع للفكاهة المضحكة والادب الهزلي المبني علي المتناقضات المضحكة والمفارقات وكذلك الحكم المأثورة الأمر الذي جعلها متداولة في اوساط عريضة من المجتمع الاسباني حسب شهادة التونسي ابراهيم الطيبلي قبل 1605م.
ابراهيم الطيبلي.. سيرة وشهادة
يشير الباحث التونسي عبدالحكيم القفصي سلامة الي ان ابراهيم الطيبلي يعد رمزا من الرموز الهامة للأدب الاسباني وهو يعد احسن ممثل للكتاب الموريسكيين الذين كتبوا بالاسبانية، وينتمي الي النخبة المثقفة الاسبانية وكذلك التونسية فكان مثالا للثقافة المزدوجة .
ولد الطيبلي في الثلث الاخير من القرن السادس عشر والطيبلي اسم موروث من اجداده الذين استقروا بطيبلة وهي قرية اندثرت اليوم الا ان الاسم موجود ويعني رافدا من روافد شقورة . وهذا يعني انه ينتمي الي عائلة مورسكية استقرت بمدينة مرثية وكان يسمي باسبانيا بــ جون بيرز الا انه عندما استقر بمدينة تستور في الشمال التونسي سنة 1609م أصبح يعرف باسم ابراهيم الطيبلي فيكون بذلك من معاصري الكاتب الاسباني ثيربانتس صاحب الـ دون كيشوت . وقد كان الطيبلي يعرف اللغة اللاتينية ويحذق الاسبانية وكانت ثقافة مسيحية متينة مكنته من الرد علي النصاري، وتحصل خاصة بعد سنة 1609م علي ثقافة اسلامية واسعة واصبح من المناصرين الاشداء للدين الاسلامي الحنيف فقام بتعليم ابناء وطنه المورسكيين مباديء الدين الاسلامي باللغة الاسبانية نظرا الي ان هذه اللغة كانت مستعملة بمدينة تستور الي حدود سنة 1735م.
أما حكاية اكتشاف الطيبلي للطبعة الاولي لقصة دون كيشوت فيرويها الباحث التونسي علي لسان الطيبلي مستشهدا بالبحاثة الاسباني يقول الطيبلي: أتذكر أنه في سنة 1604م كنت بمعرض القلعة اتجول بالشارع الكبير مصحوبا بصديق مسيحي ليست له دراية ولا معرفة بما تركه السلف فوصلنا الي مكتبة. وبصفتي من عشاق القراءة طلبت كتبا هامة ومعروفة اشتريت منها ستة. وبينما كنت اطلب الثمن وادفع المبلغ شرعت اتبادل الكلمات مع الحاضرين في حين كان صديقي ومرافقي يتصفح الكتب وفي الاخير طلبت منه في الطريقة التي استعملناها لقضاء وقتنا. فأجاب لم أفهم شيئا بما قرأت وكان عليك ان تشتري كتب الفروسية، فأجاب طالب كان موجودا ظهر لنا دون كيشوت جديد. ويتبين من خلال هذه الحادثة العرضية ان قصة دون كيشوت كانت موجودة ومعروفة ومتداولة باسبانيا سنة 1604 . ويشير الباحث الاسباني (ج. أوليفر أسين) اعتمادا علي هذه الحادثة انه توجد طبعة لقصة دون كيشوت قبل سنة 1605 تاريخ الطبعة المتعارفة. ومما يزيد في قيمة هذه الحادثة ان الطيبلي كتب التاريخ بالاحرف وليس بالارقام مما لا يدع أي مجال للشك والاضطراب.
وبناء علي ما سبق يبين الباحث التونسي عبدالحكيم سلامة انه وحسب تحليل الباحث الاسباني أوليفر أوسين وتأكيد زميله الباحث لويس برنفي يبقي الطيبلي اهم ركيزة تقوم عليها الابحاث الادبية المتعلقة بالطبعة الاولي لقصة دون كيشوت . كما يمكن ان يكون ابراهيم الطيبلي - كما يشير سلامة - صاحب كتاب أنجيل برنفي الذي يعد من المصادر الهامة في الكتابات المسيحية والكتاب موجود في مدينة سيدني الاسترالية. وفضلا عن ذلك فقد كان الطيبلي ناسخا للكتب المورسكية التي عرفت انتشارا واسعا في زمانه وعرف عنه ولعه بسقراط وزنون (فيلسوف اغريقي 335 - 264 ق.م) وهو راس (شاعر لاتيني 65 - 8 ق.م) كما انه من عشاق الشعراء والقصاصين المعاصرين للملك كارلوس الخامس.
4608 بيتا في الأدب التونسي!!
في أثره الادبي الهام الأنشودة أفرد الطيبلي فصلا هاما جدا فيه اشارة الي وجود طبعة أولي لقصة دون كيشوت و أنشودة الطيبلي - كما يذكر هو نفسه - كتبت في مدينة تستور سنة 1037 هـ/1628م وهي مجموعة شعرية تحتوي علي 4608 بيتا من الشعر ومقدمة وخاتمة وهي محررة باللغة الاسبانية وتحتوي علي بعض الاشارات والهوامش باللغة العربية وتجمع أيضا آيات قرآنية واحاديث نبوية. ويشير الباحث عبدالحكيم سلامة الي ان هذا النص تميز بشكله العالمي مما مكنه من الانتشار بين مختلف الاوساط الاجتماعية المسيحية والمورسكية وهو يبين مدي الاندماج التام الاجتماعي والثقافي لبعض المورسكيين بالبلاد الاسبانية.
ويلفت سلامة انتباهنا الي نقطة غاية في الاهمية، تبقي محل تساؤل، وهي ان هذا الاثر الادبي لا وجود لأية اشارة اليه في الأدب التونسي!! كما لم يتم تداوله في اوساط الاندلسيين النازحين من اسبانيا! بالرغم من أنه وقعت الاشارة اليه علي المستوي العالمي في عديد البحوث والدراسات التي تناولته سواء من جانب استعمال الاساليب اللسانية ذات الخصائص المتميزة، أو من ناحية المحتوي فالطيبلي كان يرمي من كتابته هذه الدفاع عن الاسلام والي تثبيت المورسكيين في عقيدتهم تجاه حملات التشكيك الصادرة عن النصاري.
ويدخل في مجال الجدل العقائدي والردود علي النصاري واليهود. ويبين الباحث عبدالحكيم سلامة أن الأنشودة أثر أدبي هام مرتبط أشد الارتباط بالصراعات الحادة بين الاديان السماوية وكذلك بالادب المسيحي المعاصر له مضيفا: لقد انعكست الصراعات المذهبية علي بعض الاعمال الادبية التي ظهرت باسبانيا في مطلع العصر الذهبي .
وتبدأ أنشودة الطيبلي بعد المقدمة الموجهة الي حاكم تونس في ذلك الحين يوسف داي (1610م - 1637م) واحد مساعديه علي السراج تبدأ بقطعة شعرية يمدح فيها الحاكم ثم يقوم بتمجيد الرسول (صلي الله عليه وسلم) والخلفاء الاربعة (رضوان الله عليهم) ثم يتعرض الي مشكلة طرد المورسكيين من اسبانيا وكيفية خروجهم من بلادهم واسباب ذلك مع التلميح الي كل تفاصيل المحنة التي تعرضوا اليها ويتعرض الكاتب كذلك الي مواطن الخلاف بين النصاري والمسلمين كالتثليث والصلب وتحريف التوراة والانجيل
المصدر: الراية القطرية
0 commentaires :
Post a Comment