محمد هشام النعسان
1ـ اسمه:
هو إبراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا الأندلسي الملقب بالرياش، والرَياش تحريف لكلمة ريس العربية التي تطلق على ربابنة البحر عند العرب. وقد ورد اسمه مغلوطاً في بعض المراجع المعاصرة فيشير الزركلي وكحالة بأن اسمه " إبراهيم المعجام، الرباش" ، والحقيقة أن اسمه ليس هذا ولا ذاك وإنما "ابن غانم الأندلسي" الشهير بالمعجم ـ أي باللسان الأعجمي ـ بالرياش، وهكذا فالمعجم أو المعجام ليس اسمه، وإنما تعني هذه الكلمة "باللغة الأعجمية"، والرباش" ليست اسمه وتعني "ريس البحر".
2ـ حياته:
ولد إبراهيم بن أحمد الرياش في قرية نَولِش الواقعة في إقليم غرناطة خلال الربع الأول من القرن الحادي عشر الهجري/ الربع الأخير من القرن السادس عشر الميلادي، في احلك فترة قضاها من بقي من الأندلسيين العرب المسلمين في إسبانيا، وهي الفترة الواقعة مابين (958ـ1008هـ/1550 ـ 1599 م). ففي هذه الفترة اكتشف رؤساء محاكم التفتيش الإسبانية أن القسم الأكبر من الأندلسيين الذين بقوا في غرناطة وما حولها، قد حافظوا على ديانتهم ومقدسا تهم الإسلامية بالرغم من أنهم تظاهروا بالتنصر، وأنهم ما زالوا يدرسون ويدرَسون اللغة العربية في بيوتهم سراً، فتم إعدام رؤسائهم، وأجبر سوادهم على الهجرة إلى خارج حدود غرناطة، فلجأت عائلة ابن غانم الرياش إلى مدينة إشبيلية. وبالرغم من أن هذه المدينة ليست مرفأ بحرياً فإن ابن غانم أحب البحر والأسفار البحرية منذ نعومة أظفاره ولعل ذلك راجع إلى رغبته الدفينة بالهجرة من الأندلس والقيام بالجهاد البحري ضد الأسبان الذين ساموا شعبه أشد أنواع العذاب في تلك الفترة.
وقد تظاهر ابن غانم الرياش ـ كبقية أبناء شعبه ـ بالتنصر، وتعلم اللغة الإسبانية لكي يتمكن من تعلم العلوم البحرية والانخراط على إحدى السفن الكبرى الذاهبة إلى أمريكا المكتشفة حديثاً، والتي يسميها ابن غانم الرياش " الهنود المغربية البعيدة ".
وخلال رحلاته عبر " البحر المحيط " ـ أي المحيط الأطلسي ـ وتجوله بين موانئه الأندلسية والأمريكية، لم يتعلم ابن غانم الرياش علوم البحر فقط، وإنما تعلم معها أيضاً العلوم المدفعية عن طريق استماعه إلى ربابنة البحر الإسبان، وملاحظته لطرق التدريب على المدافع، ويصف ذلك ابن غانم الرياش بقوله:" وكانوا يجتمعون مع أكابر القوم للكلام في تلك الصناعة(صناعة آلات الحرب البارودية)، وتارة يأتون بالكتب المؤلفة في ذلك الفن، وهي كثيرة، لأن العارفين بالعلم، المباشرين للعمل، وغيرهم، لما رأوا أن ملوكهم يعظمون أهل ذلك الفن ومن يؤلف فيه فُتنوا به، وكنت أجالسهم وأحفظ بعض ما يتفقون عليه، وأشتغل بيدي في المدافع، وجميعهم لا يظنون بي أنني أندلسي ".
ويظهر أن بعض المتعصبين الإسبان اكتشفوا أنه أندلسي ـ أي عربي مسلم ـ فأودعوه في السجن حتى قيَض الله لـه واحداً من أكابر الإسبان الذين كانوا من رفاقه في السفر فوقف إلى جانبه وتوسط لـه حتى تم إطلاق سراحه، فعاد إلى الحياة في إشبيلية. وبعد خروجه من السجن لاحظ أنه موضوع تحت الرقابة مما جعل حياته صعبة على جميع الأصعدة، فحاول الحصول على إذن للهجرة إلى المغرب ولكن السلطات الأمنية الإسبانية رفضت منحه الإذن المطلوب فاضطر إلى دفع رشوة كبيرة حتى حصل على غايته، وكان ذلك حوالي (1016هـ/1607 م).
وقد هاجر ابن غانم الرياش مع مجموعة من بني قومه إلى تونس فوصلها في عهد الداي عثمان، أي قبل عام (1017هـ/ 1608 م)، وهي سنة وفاة الداي المذكور واستلام الداي يوسف بعده، ويصف لنا ابن غانم الرياش أحداث هجرته واستقبال أهل تونس لـه بالقول: "فخرجت من تلك البلاد إلى بلاد المسلمين مع جملة الأندلس (أي الأندلسيين المسلمين)، وكانوا منعوني من ذلك، فعملت بيَنة بأنني من الأندلس لنخرج معهم، ولم ينفعني شيء من ذلك. ثم أنفقت دراهم في الرشوات، وخرجت من بينهم، وجئت إلى مدينة تونس حرسها الله فوجدت فيها كثيراً من الأصحاب والأحباب من الأندلس، وأقبل عليً أمير المدينة عثمان داي رحمه الله تعالى، وقدمني على مائتي رجل من الأندلس وأعطاني خمسمائة سلطانية، ومائتي مكحلة ( أي مائتا بارودة)، ومائتي سكيناً، وغير ذلك مما يحتاج إليه في سفر البحر ".
وبعد ذلك بدأ ابن غانم الرياش أعمال الجهاد ضد الكفار في "البحر الصغير" أي البحر الأبيض المتوسط لحساب حاكم تونس، الداي عثمان، ولكنه اضطر للعودة بغنائم قليلة بعد أن أصيب بجرح بليغ جعله يشرف على الهلاك.
وبعد أن برئ من جرحه عاد لركوب البحر، في زمن الحاكم الجديد الداي يوسف، ويصف ابن غانم الرياش حملته الجديدة بقوله:" وبعد أن برئت ركبنا أيضاً البحر، وسافرنا فيه في طلب الكفار وأموالهم ( كان الاستيلاء على أموال الكفار يعتبر نوعاً من الجهاد في البحر)، ونحن بقرب مدينة مالقة، وهي على حاشية هذا البحر الصغير، تلقينا (تقابلنا) بإحدى عشر غراباً ( أي قارباً حربياً)، وذلك في نصف شهر أغشت ( شهر آب، والمعتقد أنه شهر آب من عام1018هـ/ 1609 م) والبحر ساكن، ولاشيء من الريح، ووقع الحرب الشديد، ومات من الجانبين خلق كثير، ودام الطراد الكبير(دامت المطاردة) حتى لم يبق منا إلا القليل، وأسرونا، وصحَ أن من الكفار أعدائنا مات في ذلك اليوم أكثر من ستمائة رجل كان بينهم أكثر من عشرين من أكابرهم، وأسرونا وأنا مثقل بالجراح ".
وقد اعتقل الإسبان ابن غانم الرياش بعد أسره مدة سبع سنوات، ثم قيض الله لـه سبيل النجاة لما جرت عملية مبادلة للأسرى بين داي تونس وملك غرناطة الإسباني، حيث عاد ابن غانم الرياش إلى تونس واستقر في مرفأ " حلق الوادي "(حصن في مدخل تونس من جهة البحر) إذ عينه الداي يوسف رئيساً لمفرزة المدافع الرابضة هناك.
وفي مدينة "حلق الوادي" تسنى لابن غانم الرياش تأليف كتابه عن المدافع بعد أن رأى جهل رجال المدفعية التونسيين المستقرين هناك وعدم معرفتهم لأصول المهنة.
توفي ابن غانم الرياش في تونس بعد سنة(1048هـ).
3ـ مؤلفاته:
يتضح من خلال تعريفنا لابن غانم الأندلسي أنه وضع أول كتاب ظهر باللغة العربية في علوم المدفعية سماه:
ـ "العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بآلات الحرب والمدافع" كتبه باللغة الإسبانية في عام (1042هـ/1632م)، وفي سنة (1046هـ/ 1634م) ترجمه إلى العربية ترجمان سلاطين مراكش أحمد بن قاسم بن أحمد الشهاب الحجري الأندلسي(هاجر من الأندلس سنة (1007هـ/1598م)، وذلك في الفترة نفسها ـ إذا لم تكن السنة نفسها ـ التي هاجر فيها ابن غانم الأندلسي )، ولكن المترجم كان يقف عن عملية الترجمة بين وقت وآخر عند اصطدامه بالتعابير الفنية العديدة التي يحويها وخاصة معرفة أسماء وأنواع المدافع المختلفة التي تحدث عنها مؤلف الكتاب وعددها اثنان وثلاثون نوعاً. ويصف لنا الشهاب الحجري في الخاتمة التي ذيل بها ترجمته للكتاب هذه الصعوبة وكيف ذلَلها بقوله:" وبعد أن اشتغلت بعض الأيام بترجمة الكتاب توقفت من أجل أسماء المدافع، وما يتعلق بها، لأنه لم نعرف لها أسماء عربية، حتى طرحت القلم وأردت أن أتركه ثم تذكرت في الحين لرؤيا رأيتها قبل ذلك اليوم، كنت أقرأ في قوله تعالى " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، فتقوى عزمي على ترك البخل من نفسي، واشتغلت به وسهل الله علي من تلك الساعة حتى اختتمته، وكنت إذ يُشكل علي شيء من الكتاب نسأل الريس مؤلفه ويبين لي في الحين بياناً شافياً كل ما نسأله عليه. وعلمت أن كل ماذكر وكتب هو عنده بالقول والفعل،.. وفي اليوم الذي عزمت على تمام تعريب الكتاب فقتُ من النوم عند الصباح ولساني يقول قوله تعالى( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لك الإسلام ديناً)، ففهمت من الآية أن الله تبارك وتعالى قبل الكتاب ورضيه،نسأله سبحانه أن ينفعنا به في الدنيا الآخرة وللمسلمين بفضل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وسميت الكتاب بإذن الريس مؤلفه كتاب العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع) ".
4ـ منهج ابن غانم الأندلسي في كتابه العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله:
وضع ابن غانم الأندلسي كتابه " العز والرفعة" في سنة (1042هـ) باللغة الإسبانية وترجمه إلى العربية أحمد الشهاب الحجري في سنة (1044هـ).
يصف ابن غانم الرياش الأسباب التي دفعته لتأليف كتابه هذا بقوله:" ولما رأيت الطائفة المسماة بالمدافعين المرتبَين (المصنفين كجنود مدفعيين بالراتب) لامعرفة لهم بالعمل (على العمل بالمدافع)، وأنهم لا يعمَرون ( أي لا يحشون المدافع) ولا يرمون بما يقتضيه العمل، عزمت على تصنيف هذا الكتاب، لأن كل مدفع لـه قيمة مال وتعب في إيجاده (أي في صنعه)، ثم يوكل على تسخيره (أي استعمال المدفع واستخدامه) والرمي به من يكسره ويفنيه (أي يعطبه) في الرمية الأولى أو في الثانية، والموكل عليه الذي يعمره (أي يلقمه) ويرميه (أي يرمي به) قريباً من الهلاك ( أي أن الرامي الجاهل يعرض نفسه للهلاك)، فحملني على تصنيفه (تأليف الكتاب) النصح لـه و لمن وكله عليه. نسأل الله أن يقبل النية، إنها أبلغ من العمل، وأن ُييسر لي من يعربه بالعربية من الكلام الإشبانيول، وهو الكلام العجمي المتصرف (السائد) ببلاد الأندلس، ولا قصدت به نفعاً دنياوياً، بل الإخلاص لله تعالى بترجمته، لنكتب منه نسخاً ونبعثها إن شاء الله لبعض المواضع في بلاد المسلمين، ونذكر فيه ما يحصل النفع من وجوه، وللمدافعين القائمين بما يوجب عليهم من الحقوق فيما تصدَروا إليه وتكلفوا به من خدمة أمراء المسلمين، ويحصل لهم الأجر عند الله سبحانه بتفريج المسلمين بإتقان أعمالهم وتخويف أعدائهم الكافرين".
يحتوي هذا الكتاب على خمسين باباً في وصف البارود، والآلات الحربية القاذفة، وتركيب المدافع واختلافها، ووصف أدواتها، وطرق تعميرها، والرمي بها إلى غير ذلك، ويتخلل ذلك واحد وخمسين رسماً توضيحياً لمختلف أجزاء المدفع. وقد أضاف المترجم إلى الكتاب مداخلتين قصيرتين ضمن النص، كما ذيلها بفصل إضافي عن الجهاد وثوابه والأسباب التي دعته لترجمة النص من الإسبانية إلى العربية. ومن أبوابه:
ـ الباب الأول: وفيه توصيات وتذكيرات للمجاهدين بآلات الحرب البارودية، وما يحتاجه
ليتقن صنعه وعمله.
ـ الباب الثاني: في ذكر الآلات البارودية، ومما تركب المعدنية منها، وما يضاف للنحاس
من القصدير عند تفريغها وتذويبها.
ـ الباب الثالث: في ذكر آلات الحرب ونتيجتها والمقصود بها، وذكر اختلافها بعضها عن
بعض.
ـ الباب العشرون: في تعمير المدافع ..
ـ الباب الثاني والعشرون: في أخذ القياس للرمي بالربع وعمله وتفصيله..
ـ الباب الثالث والعشرون: في ذكر معادن أنواع المدافع..
ـ الباب التاسع والعشرون: في كيفية تبريد المدافع من كثرة الرمي بها من غير توقف،..
ـ الباب الثالث والثلاثون: في معرفة البارود..
ـ الباب الرابع والثلاثون: في كيفية عمل البارود..
ـ الباب الرابع وأربعون: في ذكر حمل المدافع في البر..
ـ الباب الخامس وأربعون: في عمل القناطر على الوديان..
ـ الباب الثامن وأربعون: في ذكر ما يحتاجه المدافعي للسفر في البر والبحر بآلات البارود..
ـ الباب الموفي خمسون: في ذكر أحسن الوجوه لعمل البارود في زمننا هذا.
إن أهمية هذا الكتاب كبيرة، لأنه جمع الكثير من التجارب الحربية التي سبقته والتي أجراها ابن غانم الأندلسي بنفسه أيضاً وتأكد من نجاحها، ولذلك يمكن القول أن هذا الكتاب هو أول كتاب ظهر باللغة العربية عن العلوم المدفعية بشكل مستقل ومتكامل.
ولقد ظهر واضحاً من خلال منهج الكتاب متابعة ابن غانم الأندلسي للعمليات الحربية منذ اختبار المعادن المناسبة لنوع المدفع، ثم طرق الصناعة، ثم مراحل إنتاج المدفع، وهكذا حتى عملية الرمي بالمدافع، ولعل تسجيل هذه المراحل تعطي للنص العسكري أهمية بالغة في مجال التراث الحربي.
كما أن الكتاب حوى كثيراً من المصطلحات العلمية والتعابير الفنية في مجال العلوم المدفعية.
وأورد ابن غانم الأندلسي في كتابه أنواعاً عديدة للمدافع خلال تصنيفها انطلاقاً من وزن عمارة البارود ( الحشوة ) التي تتطلبها بحسب حجم القذائف (الكور كما يسميها)، فيجعلها في اثنين وثلاثين نوعاً تضمها ثلاث فئات رئيسة:
ـ النوع الأول ( القلبرينات ): جمع قلبرينة، وتعني (الحية)، لأن الواحد منها طويل كالثعبان. وهي تعمر بنصف وزن كراتها(قذائفها) من البارود، وهي ترمي على الأهداف البعيدة، وهي تضم /15/ نوعاً فرعياً
ـ النوع الثاني ( القنيونات ): ويسميها ابن غانم الأندلسي أحياناً (المدافع) أو (مدافع التهديم)، لأنها تستخدم لرميات التدمير بشكل خاص، وهي أقصر في الطول من القلبرينات، وتعمر بثلثي وزن قذائفها من البارود، إلا فيما يتعلق بثلاثة أنواع فرعية منها حيث يمكن تعميرها(تلقيمها) استثنائياً بمثل وزن كراتها من البارود، وهي تضم /12/ نوعاً فرعياً.
ـ النوع الثالث ( الحجاريات ): وهي مدافع قصيرة في الطول، فمها واسع، وهي معدة لرمي الحجارة أو قذائف أخرى (قدور النفط، قطع الحديد، قذائف محرقة أو مضيئة، الحيوانات والرمم المتفسخة…) التي قد يتجاوز وزن الواحدة منها قنطاراً كاملاً(مائة رطل). وهي امتداد للمنجنيقات التي يجعلها ابن غانم الأندلسي نوعاً فرعياً من المدافع يسميها ( البَلشِطر ) تحريفاً للكلمة الإسبانية (باليستا) التي تعني (منجنيقاً) أيضاً. وتعمر هذه المدافع بنصف وزن قذائفها، أو بثلث وزن قذائفها، من البارود. وهي تضم ستة أنواع من المدافع. ويشمل هذا النوع أيضاً مدافع الهاون، التي يسميها المؤلف (المهارس) وهي جمع لكلمة مهراس التي تعني (الجرن) أو (الهاون
1ـ اسمه:
هو إبراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا الأندلسي الملقب بالرياش، والرَياش تحريف لكلمة ريس العربية التي تطلق على ربابنة البحر عند العرب. وقد ورد اسمه مغلوطاً في بعض المراجع المعاصرة فيشير الزركلي وكحالة بأن اسمه " إبراهيم المعجام، الرباش" ، والحقيقة أن اسمه ليس هذا ولا ذاك وإنما "ابن غانم الأندلسي" الشهير بالمعجم ـ أي باللسان الأعجمي ـ بالرياش، وهكذا فالمعجم أو المعجام ليس اسمه، وإنما تعني هذه الكلمة "باللغة الأعجمية"، والرباش" ليست اسمه وتعني "ريس البحر".
2ـ حياته:
ولد إبراهيم بن أحمد الرياش في قرية نَولِش الواقعة في إقليم غرناطة خلال الربع الأول من القرن الحادي عشر الهجري/ الربع الأخير من القرن السادس عشر الميلادي، في احلك فترة قضاها من بقي من الأندلسيين العرب المسلمين في إسبانيا، وهي الفترة الواقعة مابين (958ـ1008هـ/1550 ـ 1599 م). ففي هذه الفترة اكتشف رؤساء محاكم التفتيش الإسبانية أن القسم الأكبر من الأندلسيين الذين بقوا في غرناطة وما حولها، قد حافظوا على ديانتهم ومقدسا تهم الإسلامية بالرغم من أنهم تظاهروا بالتنصر، وأنهم ما زالوا يدرسون ويدرَسون اللغة العربية في بيوتهم سراً، فتم إعدام رؤسائهم، وأجبر سوادهم على الهجرة إلى خارج حدود غرناطة، فلجأت عائلة ابن غانم الرياش إلى مدينة إشبيلية. وبالرغم من أن هذه المدينة ليست مرفأ بحرياً فإن ابن غانم أحب البحر والأسفار البحرية منذ نعومة أظفاره ولعل ذلك راجع إلى رغبته الدفينة بالهجرة من الأندلس والقيام بالجهاد البحري ضد الأسبان الذين ساموا شعبه أشد أنواع العذاب في تلك الفترة.
وقد تظاهر ابن غانم الرياش ـ كبقية أبناء شعبه ـ بالتنصر، وتعلم اللغة الإسبانية لكي يتمكن من تعلم العلوم البحرية والانخراط على إحدى السفن الكبرى الذاهبة إلى أمريكا المكتشفة حديثاً، والتي يسميها ابن غانم الرياش " الهنود المغربية البعيدة ".
وخلال رحلاته عبر " البحر المحيط " ـ أي المحيط الأطلسي ـ وتجوله بين موانئه الأندلسية والأمريكية، لم يتعلم ابن غانم الرياش علوم البحر فقط، وإنما تعلم معها أيضاً العلوم المدفعية عن طريق استماعه إلى ربابنة البحر الإسبان، وملاحظته لطرق التدريب على المدافع، ويصف ذلك ابن غانم الرياش بقوله:" وكانوا يجتمعون مع أكابر القوم للكلام في تلك الصناعة(صناعة آلات الحرب البارودية)، وتارة يأتون بالكتب المؤلفة في ذلك الفن، وهي كثيرة، لأن العارفين بالعلم، المباشرين للعمل، وغيرهم، لما رأوا أن ملوكهم يعظمون أهل ذلك الفن ومن يؤلف فيه فُتنوا به، وكنت أجالسهم وأحفظ بعض ما يتفقون عليه، وأشتغل بيدي في المدافع، وجميعهم لا يظنون بي أنني أندلسي ".
ويظهر أن بعض المتعصبين الإسبان اكتشفوا أنه أندلسي ـ أي عربي مسلم ـ فأودعوه في السجن حتى قيَض الله لـه واحداً من أكابر الإسبان الذين كانوا من رفاقه في السفر فوقف إلى جانبه وتوسط لـه حتى تم إطلاق سراحه، فعاد إلى الحياة في إشبيلية. وبعد خروجه من السجن لاحظ أنه موضوع تحت الرقابة مما جعل حياته صعبة على جميع الأصعدة، فحاول الحصول على إذن للهجرة إلى المغرب ولكن السلطات الأمنية الإسبانية رفضت منحه الإذن المطلوب فاضطر إلى دفع رشوة كبيرة حتى حصل على غايته، وكان ذلك حوالي (1016هـ/1607 م).
وقد هاجر ابن غانم الرياش مع مجموعة من بني قومه إلى تونس فوصلها في عهد الداي عثمان، أي قبل عام (1017هـ/ 1608 م)، وهي سنة وفاة الداي المذكور واستلام الداي يوسف بعده، ويصف لنا ابن غانم الرياش أحداث هجرته واستقبال أهل تونس لـه بالقول: "فخرجت من تلك البلاد إلى بلاد المسلمين مع جملة الأندلس (أي الأندلسيين المسلمين)، وكانوا منعوني من ذلك، فعملت بيَنة بأنني من الأندلس لنخرج معهم، ولم ينفعني شيء من ذلك. ثم أنفقت دراهم في الرشوات، وخرجت من بينهم، وجئت إلى مدينة تونس حرسها الله فوجدت فيها كثيراً من الأصحاب والأحباب من الأندلس، وأقبل عليً أمير المدينة عثمان داي رحمه الله تعالى، وقدمني على مائتي رجل من الأندلس وأعطاني خمسمائة سلطانية، ومائتي مكحلة ( أي مائتا بارودة)، ومائتي سكيناً، وغير ذلك مما يحتاج إليه في سفر البحر ".
وبعد ذلك بدأ ابن غانم الرياش أعمال الجهاد ضد الكفار في "البحر الصغير" أي البحر الأبيض المتوسط لحساب حاكم تونس، الداي عثمان، ولكنه اضطر للعودة بغنائم قليلة بعد أن أصيب بجرح بليغ جعله يشرف على الهلاك.
وبعد أن برئ من جرحه عاد لركوب البحر، في زمن الحاكم الجديد الداي يوسف، ويصف ابن غانم الرياش حملته الجديدة بقوله:" وبعد أن برئت ركبنا أيضاً البحر، وسافرنا فيه في طلب الكفار وأموالهم ( كان الاستيلاء على أموال الكفار يعتبر نوعاً من الجهاد في البحر)، ونحن بقرب مدينة مالقة، وهي على حاشية هذا البحر الصغير، تلقينا (تقابلنا) بإحدى عشر غراباً ( أي قارباً حربياً)، وذلك في نصف شهر أغشت ( شهر آب، والمعتقد أنه شهر آب من عام1018هـ/ 1609 م) والبحر ساكن، ولاشيء من الريح، ووقع الحرب الشديد، ومات من الجانبين خلق كثير، ودام الطراد الكبير(دامت المطاردة) حتى لم يبق منا إلا القليل، وأسرونا، وصحَ أن من الكفار أعدائنا مات في ذلك اليوم أكثر من ستمائة رجل كان بينهم أكثر من عشرين من أكابرهم، وأسرونا وأنا مثقل بالجراح ".
وقد اعتقل الإسبان ابن غانم الرياش بعد أسره مدة سبع سنوات، ثم قيض الله لـه سبيل النجاة لما جرت عملية مبادلة للأسرى بين داي تونس وملك غرناطة الإسباني، حيث عاد ابن غانم الرياش إلى تونس واستقر في مرفأ " حلق الوادي "(حصن في مدخل تونس من جهة البحر) إذ عينه الداي يوسف رئيساً لمفرزة المدافع الرابضة هناك.
وفي مدينة "حلق الوادي" تسنى لابن غانم الرياش تأليف كتابه عن المدافع بعد أن رأى جهل رجال المدفعية التونسيين المستقرين هناك وعدم معرفتهم لأصول المهنة.
توفي ابن غانم الرياش في تونس بعد سنة(1048هـ).
3ـ مؤلفاته:
يتضح من خلال تعريفنا لابن غانم الأندلسي أنه وضع أول كتاب ظهر باللغة العربية في علوم المدفعية سماه:
ـ "العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بآلات الحرب والمدافع" كتبه باللغة الإسبانية في عام (1042هـ/1632م)، وفي سنة (1046هـ/ 1634م) ترجمه إلى العربية ترجمان سلاطين مراكش أحمد بن قاسم بن أحمد الشهاب الحجري الأندلسي(هاجر من الأندلس سنة (1007هـ/1598م)، وذلك في الفترة نفسها ـ إذا لم تكن السنة نفسها ـ التي هاجر فيها ابن غانم الأندلسي )، ولكن المترجم كان يقف عن عملية الترجمة بين وقت وآخر عند اصطدامه بالتعابير الفنية العديدة التي يحويها وخاصة معرفة أسماء وأنواع المدافع المختلفة التي تحدث عنها مؤلف الكتاب وعددها اثنان وثلاثون نوعاً. ويصف لنا الشهاب الحجري في الخاتمة التي ذيل بها ترجمته للكتاب هذه الصعوبة وكيف ذلَلها بقوله:" وبعد أن اشتغلت بعض الأيام بترجمة الكتاب توقفت من أجل أسماء المدافع، وما يتعلق بها، لأنه لم نعرف لها أسماء عربية، حتى طرحت القلم وأردت أن أتركه ثم تذكرت في الحين لرؤيا رأيتها قبل ذلك اليوم، كنت أقرأ في قوله تعالى " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، فتقوى عزمي على ترك البخل من نفسي، واشتغلت به وسهل الله علي من تلك الساعة حتى اختتمته، وكنت إذ يُشكل علي شيء من الكتاب نسأل الريس مؤلفه ويبين لي في الحين بياناً شافياً كل ما نسأله عليه. وعلمت أن كل ماذكر وكتب هو عنده بالقول والفعل،.. وفي اليوم الذي عزمت على تمام تعريب الكتاب فقتُ من النوم عند الصباح ولساني يقول قوله تعالى( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لك الإسلام ديناً)، ففهمت من الآية أن الله تبارك وتعالى قبل الكتاب ورضيه،نسأله سبحانه أن ينفعنا به في الدنيا الآخرة وللمسلمين بفضل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وسميت الكتاب بإذن الريس مؤلفه كتاب العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع) ".
4ـ منهج ابن غانم الأندلسي في كتابه العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله:
وضع ابن غانم الأندلسي كتابه " العز والرفعة" في سنة (1042هـ) باللغة الإسبانية وترجمه إلى العربية أحمد الشهاب الحجري في سنة (1044هـ).
يصف ابن غانم الرياش الأسباب التي دفعته لتأليف كتابه هذا بقوله:" ولما رأيت الطائفة المسماة بالمدافعين المرتبَين (المصنفين كجنود مدفعيين بالراتب) لامعرفة لهم بالعمل (على العمل بالمدافع)، وأنهم لا يعمَرون ( أي لا يحشون المدافع) ولا يرمون بما يقتضيه العمل، عزمت على تصنيف هذا الكتاب، لأن كل مدفع لـه قيمة مال وتعب في إيجاده (أي في صنعه)، ثم يوكل على تسخيره (أي استعمال المدفع واستخدامه) والرمي به من يكسره ويفنيه (أي يعطبه) في الرمية الأولى أو في الثانية، والموكل عليه الذي يعمره (أي يلقمه) ويرميه (أي يرمي به) قريباً من الهلاك ( أي أن الرامي الجاهل يعرض نفسه للهلاك)، فحملني على تصنيفه (تأليف الكتاب) النصح لـه و لمن وكله عليه. نسأل الله أن يقبل النية، إنها أبلغ من العمل، وأن ُييسر لي من يعربه بالعربية من الكلام الإشبانيول، وهو الكلام العجمي المتصرف (السائد) ببلاد الأندلس، ولا قصدت به نفعاً دنياوياً، بل الإخلاص لله تعالى بترجمته، لنكتب منه نسخاً ونبعثها إن شاء الله لبعض المواضع في بلاد المسلمين، ونذكر فيه ما يحصل النفع من وجوه، وللمدافعين القائمين بما يوجب عليهم من الحقوق فيما تصدَروا إليه وتكلفوا به من خدمة أمراء المسلمين، ويحصل لهم الأجر عند الله سبحانه بتفريج المسلمين بإتقان أعمالهم وتخويف أعدائهم الكافرين".
يحتوي هذا الكتاب على خمسين باباً في وصف البارود، والآلات الحربية القاذفة، وتركيب المدافع واختلافها، ووصف أدواتها، وطرق تعميرها، والرمي بها إلى غير ذلك، ويتخلل ذلك واحد وخمسين رسماً توضيحياً لمختلف أجزاء المدفع. وقد أضاف المترجم إلى الكتاب مداخلتين قصيرتين ضمن النص، كما ذيلها بفصل إضافي عن الجهاد وثوابه والأسباب التي دعته لترجمة النص من الإسبانية إلى العربية. ومن أبوابه:
ـ الباب الأول: وفيه توصيات وتذكيرات للمجاهدين بآلات الحرب البارودية، وما يحتاجه
ليتقن صنعه وعمله.
ـ الباب الثاني: في ذكر الآلات البارودية، ومما تركب المعدنية منها، وما يضاف للنحاس
من القصدير عند تفريغها وتذويبها.
ـ الباب الثالث: في ذكر آلات الحرب ونتيجتها والمقصود بها، وذكر اختلافها بعضها عن
بعض.
ـ الباب العشرون: في تعمير المدافع ..
ـ الباب الثاني والعشرون: في أخذ القياس للرمي بالربع وعمله وتفصيله..
ـ الباب الثالث والعشرون: في ذكر معادن أنواع المدافع..
ـ الباب التاسع والعشرون: في كيفية تبريد المدافع من كثرة الرمي بها من غير توقف،..
ـ الباب الثالث والثلاثون: في معرفة البارود..
ـ الباب الرابع والثلاثون: في كيفية عمل البارود..
ـ الباب الرابع وأربعون: في ذكر حمل المدافع في البر..
ـ الباب الخامس وأربعون: في عمل القناطر على الوديان..
ـ الباب الثامن وأربعون: في ذكر ما يحتاجه المدافعي للسفر في البر والبحر بآلات البارود..
ـ الباب الموفي خمسون: في ذكر أحسن الوجوه لعمل البارود في زمننا هذا.
إن أهمية هذا الكتاب كبيرة، لأنه جمع الكثير من التجارب الحربية التي سبقته والتي أجراها ابن غانم الأندلسي بنفسه أيضاً وتأكد من نجاحها، ولذلك يمكن القول أن هذا الكتاب هو أول كتاب ظهر باللغة العربية عن العلوم المدفعية بشكل مستقل ومتكامل.
ولقد ظهر واضحاً من خلال منهج الكتاب متابعة ابن غانم الأندلسي للعمليات الحربية منذ اختبار المعادن المناسبة لنوع المدفع، ثم طرق الصناعة، ثم مراحل إنتاج المدفع، وهكذا حتى عملية الرمي بالمدافع، ولعل تسجيل هذه المراحل تعطي للنص العسكري أهمية بالغة في مجال التراث الحربي.
كما أن الكتاب حوى كثيراً من المصطلحات العلمية والتعابير الفنية في مجال العلوم المدفعية.
وأورد ابن غانم الأندلسي في كتابه أنواعاً عديدة للمدافع خلال تصنيفها انطلاقاً من وزن عمارة البارود ( الحشوة ) التي تتطلبها بحسب حجم القذائف (الكور كما يسميها)، فيجعلها في اثنين وثلاثين نوعاً تضمها ثلاث فئات رئيسة:
ـ النوع الأول ( القلبرينات ): جمع قلبرينة، وتعني (الحية)، لأن الواحد منها طويل كالثعبان. وهي تعمر بنصف وزن كراتها(قذائفها) من البارود، وهي ترمي على الأهداف البعيدة، وهي تضم /15/ نوعاً فرعياً
ـ النوع الثاني ( القنيونات ): ويسميها ابن غانم الأندلسي أحياناً (المدافع) أو (مدافع التهديم)، لأنها تستخدم لرميات التدمير بشكل خاص، وهي أقصر في الطول من القلبرينات، وتعمر بثلثي وزن قذائفها من البارود، إلا فيما يتعلق بثلاثة أنواع فرعية منها حيث يمكن تعميرها(تلقيمها) استثنائياً بمثل وزن كراتها من البارود، وهي تضم /12/ نوعاً فرعياً.
ـ النوع الثالث ( الحجاريات ): وهي مدافع قصيرة في الطول، فمها واسع، وهي معدة لرمي الحجارة أو قذائف أخرى (قدور النفط، قطع الحديد، قذائف محرقة أو مضيئة، الحيوانات والرمم المتفسخة…) التي قد يتجاوز وزن الواحدة منها قنطاراً كاملاً(مائة رطل). وهي امتداد للمنجنيقات التي يجعلها ابن غانم الأندلسي نوعاً فرعياً من المدافع يسميها ( البَلشِطر ) تحريفاً للكلمة الإسبانية (باليستا) التي تعني (منجنيقاً) أيضاً. وتعمر هذه المدافع بنصف وزن قذائفها، أو بثلث وزن قذائفها، من البارود. وهي تضم ستة أنواع من المدافع. ويشمل هذا النوع أيضاً مدافع الهاون، التي يسميها المؤلف (المهارس) وهي جمع لكلمة مهراس التي تعني (الجرن) أو (الهاون
المصدر: موقع أرض الحضارات
0 commentaires :
Post a Comment