--------------- - - -

Feb 2, 2011

الموريسكيون .. درّة المسلمين بالأندلس


أ. د. لوثي لوباث بارالت*

من بين الحضارات التي لم يفهم سرّ اندثارها السريع حضارة الأندلس التي ازدهرت في الجزيرة الإيبيرية انطلاقا من سنة 711م، عندما دخل طارق بن زياد من الموقع المسمّى اليوم "جبل طارق" ضامّا هذه الأراضي للإسلام، إلى سنة 1492م عندما سقطت غرناطة
الناصرية، المعقل الإسلامي الأخير، تحت وطأة المسيحيين "الملكين الكاثولكيين".

وخلال هذه القرون الثمانية الطويلة ازدهرت إحدى الحضارات الأكثر إشراقا التي عرفتها الإنسانية، إذ عرفت قرطبة الخلافة في القرن العاشر فنافست بغداد وبلاد فارس والقسطنطينية بازدهار ثقافتها وبجمالها المنقطع النظير، فقد كانت مبلّطة ومزركشة ومضاءة، وتباهت بجامعة ارتادها أساتذة زوّارا من الغرب والشرق وآوت 400.000 كتابا، وتغنّى الشعراء بقبب قصر مدينة الزهراء الدّائرية وبينابيعها المصنوعة من الزّئبق التي كانت سببا في إغماء الملك المسيحي أردونيو في زيارة ديبلوماسية أمام عبد الرحمان الثّالث. وهناك قليل من الأمثلة الأكثر مأساوية والتي نسمّيها بعبارة شائعة اليوم، هي تصادم الحضارات The clash of civilizations ومن ثمّ فإننا لا نعجب من قول هورسويتا، سكسوني من القرن العاشر، عندما اعتبر قرطبة مدينة الخلافة، مدينة للشّعراء، والفقهاء والعلماء والفلاسفة بمثابة "درّة العالم".

ومع مرور الزمن، انهارت الخلافة العربية-الأسبانية وانقسمت إلى دويلات عرفت بملوك الطوائف، لكن رغم ضعف السلطة السياسية والعسكرية، فقد واصلت الأندلس ازدهارها الثقافي من خلال قصر الحمراء بغرناطة، كما نعلم، فلم يكن معقلا عسكريّا فحسب بل كان قصرا ينطق شعرا، تستشف منه قصائد ابن زمرك Ibn Zamrak حيطان الصّرح، شارحة للزّائر من خلال طريقة الاستمتاع بهذه الألوان المتعانقة في ظلال هذه الرّواسب الكسلية المدلاة من السّقف وسرّ هذه الينابيع المتلألئة التي أضرّت بكثرتها القصر. وليس من باب الصّدف أن اعتبر اميليو غرثيا غومث Emilio García Gómez أن قصر الحمراء هو قصائد شعر، وأن ابن زمرك هو الشّاعر الذي كتب شعره الأكثر تألّقا في العالم.

لكن هذه الحضارة الإسلامية المذهلة، اندثرت دون أن تترك أثرا في الجزيرة الإيبريّة. لإنقاذ ذاكرتها وإحياء ثقافتها، وقد انكبّ مؤرخون قدامى ومعاصرون من الشرق والغرب ، بداية من ابن خلدون وابن الخطيب وألفونسو العاشر في القديم إلى المعاصرين أمثال فيليب حتي، ومحمود مكّي، وسلمى خضراء جيوسي، وأ. لفي بروفنسال، ور. دوزي، وفرنثيسكو كوديرا، وميغال أسين، وكلوديو سنتشث ألبورنوث، وإميليو غرثيا غومث، وفرنث روسنتال، ول. ب. هرفاي، وموثادس غرثيا أرينال، بابلو بنيتو، وماريا روسا مانوكال وثنتيا روبنسون وغيرهم. وتساءل بعض هؤلاء المؤرّخين بفضول تاريخي الذي لا يخلو غالبا من حنين، كيف أن أمة بهذه الأهمية التي ساهمت كثيرا في تمدين أوروبا القرون الوسطى، اندثرت وإمحت من الأراضي الإسبانية التي امتلكتها لمدة قرون عديدة.

ويأتي د. محمد عويني من بين هؤلاء الباحثين المتفحّصين المدققين، إذ تناول في هذا الكتاب "درة المسلمين بالأندلس وأسباب اندثارها"* بفضل بيبليوغرافيا عربية وأوروبية نظرا إلى معرفته باللغتين، وهو أمر إيجابي جدّا في البحث ويعدّ من نقاط القوّة فيه، وبطريقة واضحة جلية للسؤال القديم : حقّا لماذا ضاعت الأندلس من بين أيدي المسلمين؟ وكيف اندثرت إلى حدّ أنها لم تترك آثارا لدينها وشيئا من لغتها في هذه الأراضي التي كانت تملكها بطريقة مشرّفة؟

يقارن الباحث هنا بين إسبانيا العربية ووضع أمريكا، فبعد حروب الاستقلال هزم الكربابوس – أبناء المستعمرين الإسبان الذين ولدوا هناك – الإسبان أنفسهم، "وعوّضت اللغة القشتالية، والثقافة والدين المسيحي حضارات الإنكا والمايّا ". وجرت الأحداث نفسها مع بقية الأوروبيين من إنكليز، وبرتغاليين وفرنسيين وهم الذين احتلّوا مواقع أخرى في أمريكا : لقد ثبّتوا لغتهم وثقافتهم في هذه الأراضي الجديدة، رغم أنهم قد طردوا منها. وهناك مجال آخر للمقارنة هو أسلمة مصر الحاسمة وسوريا وكذلك بلاد الفرس التي وقع فتحها في الأعوام نفسها التي كانت فيها الجزيرة الإيبيرية مرتبطة بالإمبراطورية الإسلامية. وفي هذا السياق لم يقع تجذير الثقافة الإسلامية في إسبانيا التي هيمنت في الغرب بعد ثمانية قرون من وجود المسلمين بها.

يكتشف الباحث بتأنّ وصبر وثبات عديد التحوّلات التاريخية المتضاربة التي كوّنت الحضارة الإسلامية في الأندلس ليكتشف أنه مع الإزدهار الثقافي، توجد الفوضى والظلم. كانت الأندلس رغم مجدها مجتمعا مريضا يحمل بذور تدميره وخرابه.

يعتبر الأستاذ عويني أن هناك الكثير من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في انهيار المجتمع الاسباني-العربي. ولم تقنعه الحجّة المكرّرة والقائلة بأن الرخاء ورغد العيش في تلك الحقبة، كان نتيجة ازدهار هذه الحضارة، وأنه السبب الرئيسي في انهيار الأندلس. وأن انحطاط الأمراء والخلفاء وملوك الطّوائف كان أمرا واقعا، لكن هناك أسباب أخرى أكثر أهمية ساهمت في الطّرد النهائي للإسلام الإسباني سنة 1609.

ويعتبر الأستاذ عويني، أن ما ضلّ المسلمون-الإسبان هو طريقهم إذ لم يطبّقوا المفاهيم الأكثر أصالة وتقدما للدين الإسلامي في فتوحاتهم وإدارتهم لهذه الأراضي الجديدة ؛ فقد نسوا العدالة الإجتماعية أو تساوي كل المواطنين أمام القانون، ومارسوا خلال قرون، الظلم الإجتماعي والسياسي والاقتصادي على رعاياهم، والغريب أن النعرة القبلية الجاهلية بين الأمويين قد ظهرت من جديد بين الفاتحين الجدد فيما بعد من أمثال المرابطين والموحّدين، وعبر هؤلاء مضيق جبل طارق ليساهموا في المعارك ضدّ المسيحيين وبفكرة تجذير وإحياء الدّين الإسلامي في الأراضي الأندلسية.

لقد أسّست العائلات المالكة النظام الوراثي للحكم، زاعمة أن أفرادها ينتمون إلى آل بيت الرسول وأن لهم الحقّ في وراثة الحكم. ولم يساهم الشعب المكبّل بالضرائب غير القانونية في الحياة السياسية. واعتادت السلط على الحكم باسم العائلة من دون اكتراث رضاء الرعية وقبولها بادعاء الإنتماء إلى البيت النبوي، الذي كان صحيحا في بعض الحالات دون بعض. لقد أخلد الحكّام العرب في الأندلس في الحكم، الذي أفسح المجال لشجار العائلات ولأحقاد أدّت إلى قتل الأخ أخاه، ولأشكال من الانتقام، وكلّ هذا أدّى إلى تسارع في الأحداث أدّى إلى اختلال في الحكم وعمّت الفوضى في الأراضي الجنوبية وفي الوقت نفسه تغاضوا عن الخطر الحقيقي لمسيحيي الشمال. كما هو معلوم، واستغلّ هؤلاء دائما هذه الانقسامات وهذا التشرذم الدّاخلي لأعدائهم في الدّين.

وقد أدّى هذا الإهدار للطّاقات السياسية الأندلسيين إلى تعسير مهمّة التأقلم مع المناخ الطبيعي للشمال ليبدؤوا هناك عملا منظّما وممنهجا في تعريب الأسلمة. لقد نسوا أنهم في وضع تاريخي هشّ، يعيشون في أراض غير أراضيهم، ذي ثقافة ودين مختلفين عن ثقافتهم ودينهم. لقد بقوا منعزلين في الجنوب، وأصبحوا أعداء لبعضهم البعض، منهمكين في معارك وفي خصومات سياسية تافهة ودنيئة، وهذا ما كان وراء نشوء نظام اجتماعي وسياسي معوّج وعدوّ نفسه، والذي لم يشك لحظة أن يقيم تحالفا مع الملوك المسيحيين ليستعين بهم ضدّ إخوانهم المسلمين.

وبداية من القرون الأولى للفتوحات الإسلامية، عملت السلطات على إنشاء جيش متكوّن من المرتزقة ليحمي مصالح الدولة وليحمي نفسه من الانتفاضات الشعبية وكانوا من المرتزقة المتكوّنة منهم الجيوش بنسب كبيرة، وقد انغمسوا في الفساد والمؤامرات وساهموا في النزاعات الدّاخلية للدولة. وكوّنوا فرقا ليحموا مصالحهم الخاصّة، وعجّلوا في سقوط السلطة التي زعموا أنهم يدافعون عنها. ومن ناحية أخرى، فإن التسامح الأندلسي الذي مجّده الكثير من الباحثين المعاصرين، لم يكن كافيا حسب الباحث، ليحقق التعايش الحقيقي بين مختلف الفرق العرقية والدّيانات المتناقضة التي تكوّن تلك الحضارة.

لقد تشتت وتناثرت تلك القوى السياسية الأندلسية، وهناك غضب شعبي ودخول المرابطين والموحّدين إلى المشهد التاريخي والذين أتوا لتقوية القوى العسكرية المنهارة لملوك الطوائف، ولم يحلّوا المشكلة بل عقدوها. كلّ هذا لم يوجد توتّرا عرقيا كبيرا بين العرب والبرابرة، فقد أحدث تصادما حقيقيا ثقافيا بين البلاطات الناعمة الأندلسية والقادمين الجدد، المتعوّدين على الحياة الصحراوية والذين لهم نظرة صارمة ومختلفة للإسلام.

وبصفة عامّة، فإن التاريخ يعيد نفسه، والشعب نفسه الذي استقبل ورحب بمجيء المرابطين كمنقذين للوضع، فإنه يتّهمهم بالفساد ويثور ضدّهم، وأصبح منقذو الأمس جلاّدي اليوم ولم تبرز سياسة حقيقية للتصالح وتخفّف من الأزمة التي ظهرت بين الفرق المتنازعة. لقد انطفأ ذلك "الحماس الإسلامي النقيّ الذي ينادي بتلك المفاهيم الجديدة مثل المساواة والعدالة والأخوّة والتضحية"، وهكذا علّق المؤرّخ بشيء من الإحباط التاريخي. وبقي الإسم فقط من الدين الإسلامي وعوضته المصلحة الخاصة للسلطة.

بينما بدأت تظهر التيّارات الأصولية، وكان شعراء الأندلس الممجدين من السلف، متواطئين حسب الأستاذ عويني، بطريقة ما في هذا العالم المتغيّر الذي يتلاشى بين أيديهم. لقد خدموا بذلّة ملوك الطّوائف والأمراء، يمدحونهم حسب الطلب ليمدّدوا ويديموا الخلافات بين الإخوة، مع كلّ هذا، أطلق السياسيون الأندلسيون ألقابا رنّانة مثل أمير المؤمنين، لكن هذه الألقاب الفخمة تكشف وتدلّ على ملحمة تاريخية وسياسية فارغة.

لقد أضاع المسلمون القيادة في الأندلس وبدأ المسيحيون يشعلون فتيل الفتنة ويحرّضون على مزيد من التشرذم بين مسلمي إسبانيا، كما حدث بالنسبة إلى آخر معقل إسلامي في غرناطة التي استرجعها الملوك الكاثوليكيون دون عناء يذكر. لقد سلّم أبو عبد الله مفاتيح قصر الحمراء سنة 1492 وهكذا انتهى التاريخ الإسلامي الرّسمي على الأراضي الإسبانية وأدّت هذه الهزيمة إلى الطرد المذلّ لآخر المسلمين في إسبانيا سنة 1609، الذين يسمّون اليوم " بالموريسكيين" وهي كناية مخزية.

يكمل الأستاذ عويني بحثه مفكّرا كيف يمكن أن نعي هذا الدّرس من ضياع الأندلس كإحدى المآسي الكبرى في التاريخ الإنساني، بالنسبة إلينا نحن أبناء القرن 21. فهو ينادي بالتسامح في العلاقات بين الأمم وأن نتعلّم كيف نسامح ونتعايش رغم الاختلافات الدينية والثقافية والعرقية. ويصرّ على أن نكافح معا التعصّب والتطرّف وكره الأجانب. إذ ليس هناك أي دين يملك الحقيقة المطلقة وليس هناك داع إلى حل النزاعات بالقوّة وإني لأتجرّأ على القول إن الباحث قدّم شيئا مهمّا في هذا الحوار بين الثقافات دون أحكام مسبّقة كما اقترح هو بنفسه.

نحن أمام مؤرّخ مسلم إذ عوض أن يكتب بالعربية فقد استعمل اللغة القشتالية لبحوثه الدالة على دراية واسعة، مؤسّسا ومساهما هكذا في بناء جسر خصب بين ثقافته الخاصة والثقافة الإسبانية، من خلال فحص مواجهتها العنيفة عبر صفحات بحثه. وهذا الجسر الذي نسفه التاريخ منذ عدة قرون. وعليه فقد استوجب أن يتأسس اليوم جسر للتفاهم والحوار، وعلينا جميعا أن نكوّنه ونبنيه من جديد لنمرّره للأجيال القادمة، حتى لا يعيد التاريخ نفسه ويخنقنا في بركة من الدّماء.**

_________________________

* "درة المسلمين بالاندلس وأسباب اندثارها"، د. محمد العويني، كلية الآداب والفنون والإنسانيات، جامعة منوبة، تونس، تقديم د. لوث لوباث بارلت، منشورات مركز الدراسات والترجمة الموريسكية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، أكتوبر/تشرين الأول 2010
** تقديم د. لوث لوباث بارلس لـ "درة المسلمين بالأندلس وأسباب اندثارها، أكتوبر /تشرين الأول 2010. 245 ص ؛ 24 سم – "السلسلة 4 : تاريخ الموريسكيين بالأندلس رقم 28".


المصدر: العرب أونلاين

0 commentaires :

Post a Comment

Copyright © Los Moriscos De Túnez الموريسكيون في تونس | Powered by Blogger

Design by Anders Noren | Blogger Theme by NewBloggerThemes.com