مؤلف تحت إشراف: الأستاذ لطفي عيسى
المُساهمون: ثريا بالكاهية، هدى بعير، لمياء عبيدي، حسام الدين شاشية، عادل النفاتي، لطفي عيسى
الناشر: كلمة للنشر والتوزيع
سنة النشر: 2021
1 - مساءلة الانتماء بأيادي متعددة:
لا يجافي هذا التأليف الجماعي الذي أنجزته أياد متعددة التصوّرات التي فرضتها سياقات ما بعد سنة 2011 تونسيا،
وهي سياقات أعلت من القيمة الاعتبارية -وبشكل غير منتظر- للمعرفة التاريخية التخصّصية وللنضال من أجل الحريات الأكاديمية في آن. لذلك احتفظنا ولاعتبارات منهجيّة بحتة اتصلت بطبيعة المساهمات، والشواغل المخصوصة لمن ركّبوها أو أسسوا لمنطقها الداخلي أيضا، بخمس محطات متواشجة خاضت تباعا في: «رهانات الانتماء في المباحث التاريخية الاستعمارية»، وتضمن ذلك عرضين متكاملين حررتهما باحثتان، واحدة يحيل تخصّصها الضيق على تاريخ مقاطعة أفريقيا القديم وتحليل النقائش الرومانية، في حين اتصل تخصّص الباحثة الثانية في التاريخ الحديث لتونس في ضوء تمثيلها الخرائطي خلال القرنين الماضيين. فقد قاربت «ثريا بالكاهية» نقديّا رحلة استكشافية فرنسية استهدفت البلاد التونسية ونشرت في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك ضمن مساهمة حملت عنوان: « بين الرهانات السياسية والاستيلاء على هوية تونسية ما قبل إسلامية: مروية سبيبة في كتاب «رحلة إلى تونس» لــ «روني كانيا» و»هنري صلادان»»، واستجلت تحاليلها ثلاثة محاور هي: طبيعة المهمّة الاستكشافية، فواقعة سبيبة من منظور القراءة الإيديولوجية الاستعمارية، قبل التفرّغ لتوضيح كيفية انخراط تلك المروية، تحديدا في محاولات الاستحواذ على ما نعتته صاحبة هذا الاسهام الافتتاحي بـ «الهوية ما قبل الإسلامية للبلاد التونسية». وبالتوازي مع ذلك تولّت «هدى بعير» وبطريقة لا تخلو من توارد للخواطر والأفكار، وضمن مساهمة حملت عنوان: «التجديد الكرتوغرافيّ في القرن التاسع عشر: أيّ مكان لتونس؟ البتّ في ثلاثة محاور متضامنة هي: إدارة مشاريع رسم الخرائط ونصيب تونس من ذلك، فأشكال التواصل بين المستكشفين والمناطق المشمولة بالمسح التوبوغرافي ورسم الخرائط، قبل أن تتفرّغ للحديث عن صناعة الخرائط واستخداماتها السياسية.
اهتم الفصل الثاني من هذا التأليف الجماعي بما نعتناه بـ «خطاب الانتماء في الأدبيات التاريخية للوطنيين التونسيين»، واتصل ذلك تحديدا بمساهمة أمّنتها «لمياء عبيدي» واقترحت علينا ضمنها الحفر في تقاطيع شخصية «عبد العزيز الثعالبي المؤرخ»، وعلاقة ذلك بما سمـّته بـ «السرديات الممكنة للانتماء والأصول. بينما استأثر البعد الثالث بفصل مُفرد حمل عنوان «مساءلة الانتماء من منظور الدراسات التاريخية الموريسكية»، قام باقتراحه حسام الدين شاشية، الذي اشتغل على أشكال المثاقفة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط وتاريخ تهجير الموريسكين وتوطينهم بالبلاد التونسية، لذلك حمل مقترحه التاريخي عنوان: « الموريسكيون في تونس: إعادة قراءة لروايات الانتماء»، وراوح ذلك العروض بين مساءلة النصوص الإخبارية المحلّية والنصوص التي وضعتها النخب الأندلسية الوافدة بخصوص الحرج الذي عاينته سيرورة إدماج الوافدين الجُدد والتصديق على اتصالهم الوثيق بما يربط مختلف الشرائح الاجتماعية المحسوبة على «التونسة» والتونسيين.
اتصلت عروض الفصل الرابع، وهو فصل حمل عنوان «قلق الهوية في مؤلفات الرحالة التونسيين»، بمراجعة أثّثها «عادل النفاتي» سلطت الضوء على رحلتي «محمد السنوسي» و»سليمان الحرايري»، وأسند لها عنوان: «سؤال الانتماء ومدلول الهوية التونسية زمن الاصطدام بالغيرية الأوروبية»، رغبة في التمييز بين ما نعته المؤلِف بـ»الهويّة الناجزة في عروض محمد السنوسي»، وبين علاقة «فتاوى سليمان الحرايري بحاجة المسلمين إلى الانفتاح على الآخر».
ولئن لم يـَخْلُصْ المبحث الخامس والأخير من هذا الكتاب للبتّ في التاريخ التونسي مُؤْثِرًا التعرّض لـ «صناعة التواريخ في ضوء التنافذ بين القراءتين المعرفية والسياسية» من بوابة التاريخ المقارن بين العروض التركيبية في التواريخ الجامعة التونسية ورصيفتها المغربية، فإن المقصد من تأثيثه بتلك الطريقة هو مواصلة البتّ في علاقة الكتابة التاريخية الأكاديمية تونسيا ومغربيا بما تستقيم تسميته بالحكايات التاريخية المؤسسة لهاتين الأمتين، والتساؤل بخصوص المناهج المعتمدة من قبل المختصين في كتابة التاريخ بكلا البلدين في صياغة العروض التأليفية التي غطت مختلف الأزمنة الاعتبارية، من عصور ما قبل التاريخ إلى تاريخ الزمن الراهن، وذلك من منظور المنافسة القائمة بين صيت المعرفة العالـِمة وسلطة الزعامة السياسية، بحيث تمثل الهدف من إتمام ذلك في الكشف عن حقيقة التنافذ بين ما هو سياسي وما هو معرفي في عملية التركيب، لذلك حملت المساهمة الأخير ضمن هذا المؤلف عنوان: «إشكالية التركيب في تواريخ المغارب الجامعة». واتصل ذلك بثلاثة محاور راجعت تباعا تاريخ المغارب القديم بين المحلي والوافد، وسلّطت الضوء على تواريخ المغارب الإسلامية، تلك التي وجدت صعوبة في الانسلاخ عن هيمنة المشرق، قبل توضيح كيفية تركيب تواريخ المغارب الجامعة لمشاريع الإصلاح وأشكال انغماس مختلف السرديات المقترحة في مأزق تبرير عدم توصّل الفاعلين السياسيين إلى استكمال بناء أسس الدولة الحديثة.
2 - في توارد الخواطر وتلاقح الأفكار
ساهم التقاء المدونتين المصدريتين في مساهمتي الفصل الأول حول السياقات الزمنية المميزة لرحلات الاستكشاف المتّصلة بالتنقيب الأثري أو بالمسح التوبوغرافي، ومن خلال العروض التي وفرتها القراءة في مضمرات الخطاب الوارد ضمن مؤلف «رحلة إلى تونس» لـ «كانيا» و»صلدان»، أو توضيح شروط إتمام مسح المجال الاعتباري للبلاد التونسية وتوصيف مراحله، سواء قبل تركيز إدارة الحامية الفرنسية أو بعد ذلك، في شدّ الانتباه لمستوى تطوّر أشكال الادراك المتصلة بما سميناه بـ «سؤال الانتماء». فقد تسربت ضمن تفاصيل رحلة التنقيب الأثري جملة من التأويلات والاستعارات التي وُظفت لتبرير حركة التوطين الاستعماري باعتبارها رسالة حضارية، تذكّر بأمجاد المقاطعة الرومانية الافريقية وبـالـ «تضحيات» التي قدّمتها الديانة المسيحية، بحيث ثبّت لثريا بالكاهية استغلال تورّط عدد من وثنيي مدينة «سبيبة» الواقعة بالوسط الغربي التونسي في تصفية لما لا يقل عن ستين مسيحيا عمدوا إلى هدم تمثال «هرقل» المجسّد للتعايش الديني والثقافي ضمن الحضارة الهلنستية، بغرض تبرير مشروع تركيز إدارة استعمارية فرنسية بتونس، جسّمت حق الغالب في الترقية الفوقية للمغلوب، وذلك وفقا لما يفرضه الإرث التاريخي المشترك الضارب في القدم بينهما. فقد بيّن لنا الإصرار على استعادة حادثة «سبيبة» وفق ما أورده القديس أوغسطين الدفع نحو التأكيد على انتشار المسيحية في أفريقيا الرومانية، توازيا مع ما بلغتهُ مدنها من مراتب بلَدِيّة سامية في عهد تلك الشخصية الفارقة والرمزية، وتزايد صيت راويها الذي جاوزت شهرته حدود المقاطعة الإفريقية، مـُحتفظا بروابط متينة مع زملائه سواء من بين رجال الدين أو من بين غير المتديّنين من المحسوبين على النخب المتعلّمة بجميع أنحاء الإمبراطورية. لذلك يصدُق للتعبير عن ذلك التنافذ الثقافي الذي عاشته بلادنا طوال الفترة القديمة استعارة مقولة المؤرخ الفرنسي «كلود ليبالي Claude Lepelley,»، الذي اعتبر: «أنه لئن كان أوغسطين ومن عاصروه مسيحيين، فإنهم قد ترعّرعوا في ضمن بيئة مدنية وثنية هيمن عليها نظام المدينة الرومانية، وسعى ضمنها الوثنيون والمتعلّمون ورجال الدين جاهدين للحفاظ على شخصية دنيوية درجنا حاضرا على تسميتها بـ «اللائيكية». فقد كان على مجال المغارب انتظار بداية القرن الخامس الميلادي حتى يتم بشكل مُتدرّج، وضع أسس النظام المدني الذي يقوم على الديانة المسيحية. لذلك يبرز بجلاء الفارق بين التوظيف السياسي والإيديولوجي من جهة، وبين ما يوازيه في الجانب المقابل من تحاليل علمية يُعتد بمحصلتها المعرفيّة. ركزت المقاربة المخصّصة لعلاقة المسح الجغرافي بالبلاد التونسية بمسألة الانتماء اهتمامها وبالتوازي مع سابقتها على تاريخ رسم الخرائط
وتوضيح التطوّرات التي طالت تلك المعارف في القرن التاسع عشر، قبل أن تحاول إدراج نشاط مختلف وضعي تلك التمثيلات الخاصة بالمجال التونسي في مسار عقلنة التحكّم في المجال، وفقا لمقاربة معرفية كشفت عن المسافة الفاصلة بين العقلين الغربي والشرقي. وهو ما مثّل فرصة للتعرّف على خصوصيات تاريخ رسم الخرائط أو تمثيل الفضاء التونسي جغرافيا في غضون القرن التاسع عشر، وحدود ما نعتته هدى بعير بـ«أهلنة» محصلته أو إعادة تملكه بالعويل على الترجمة تونسيا. وذلك قبل خلوصها إلى تقييم مدى مساهمة الخريطة في تطوير مشاعر الانتماء والوعي بالتراث المادي المشترك بين المحسوبين على نفس المجال الاعتباري، من خلال توجّه إدارة الباي لإدراج تلك التقنيات ضمن المناهج الدراسية الجديدة، فضلا عن ثبوت تعويل القبائل الحدودية التونسية الجزائرية على تلك المعارف واستغلالها كحجة لإثبات في دعواتها المتكررة للسلطة الفرنسية لإنجاز ترسيم حدودي عادل بين المستعمرتين. لذلك يُعدّ الاطلاع على واقع النشاط الخرائطي بالبلاد التونسية في القرن التاسع عشر فرصة لمزيد فهم العلاقات الثلاثية التي ربطت كل من فرنسا والإمبراطورية العثمانية بالبلاد التونسية. فالحفر في السياقات التاريخية المتصلة بإتمام عمليات المسح بوسعه أن يزيح الستار عن الدور الذي عاد للتمثيل الخرائطي بوصفه وسيط مُهم في تسليط الضوء على الأشكال المتشعّبة لتبادل الشرعية بين مختلف السرديات المحلية والأجنبية، والكشف عن نسق تطوّر التمثلات المتعلقة بالانتماء، فضلا عن الدور الذي لعبته الأطراف الفاعلة في حصول ذلك التطوّر أيضا.
3 - تقاطعات طريفة ومجدّدة للدلالة:
تم تركيب الفصلين الثاني والرابع بدورهما، ونقصد «قلق الهوية في مؤلفات الرحالة التونسيين» و«خطاب الانتماء في الأدبيات التاريخية للوطنيين التونسيين»، وفقا لتصوّرين يحيلان على تواشج المضامين. فقد تعقّب «عادل النفاني» مختلف التمثلات التي انتجتها «الأنا التونسية» حول ذاتها لحظة زيارة عدد من مبعوثيها إلى أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بحيث مثل ذلك التاريخ نقطة مفصليّة للتفكير في مشغل الانتماء أو أعراض ما نعته المؤلف بـ «قلق الهويّة» لدى النخب التونسية، وكذا لدى غيرها من النخب العربية، لحظة الاطلاع على أعمال ساكنة الضفة المقابلة للمتوسط وأيامهم. ولبلوغ ذلك تمّ إخضاع مصدرين محسوبين على أدب الرحلات للمقاربتين السياقية التاريخية والنقدية، بغرض مجادلة الخطاب الثقافي. فتبيّن أن سؤال الهويّة أو «قلقها» قد وُلد في سياقات زمنية اتسمت بالانغلاق، لذلك شاب الإجابات عن ذلك السؤال كثير من التشويه. بحيث برهنت إجابات «محمد السنوسي» و»سليمان الحرايري» عن الهوة السحيقة التي فصلت المجتمع التونسي عن نسق التحوّلات السريعة التي عاشتها الممالك الأوروبية الغربية، وانبرى المؤلفان إلى مقارنة أوضاع التونسيين المزرية بأوضاع أوروبا الناهضة. فكان لكلاهما جانبا من الجرأة في طرح سؤال من نحن؟ ومحاولة تحديد علاقاتنا بالآخر المتمدّن أيضا؟ ويظهر من استعراض تلك الآراء حضور موقفان متناقضان لا يزالان حاضران إلى يوم الناس هذا. تبنّى الأول تصوّرات محافظة اختصرت انتماءات التونسيين في بعدي العروبة والإسلام، في حين شدّدت الثانية على ضرورة تجاوز التمثلات الموروثة بالبحث عن أفاق أرحب اعتبارا لتغيّر الأحوال أو تبدّلها. مما دعاه إلى الحديث عن أهمية الانتماء إلى تونس واتحاذها مقوّما أساسيا للهويّة المحليّة بوسعه التحوّل إلى بديل لعطالة الـمُقوِّمين الأولين أي العروبة والإسلام. وبالتضامن مع هذه العروض اقترحت «لمياء عبيدي» مساءلة عينات من الأدبيات التي خلّفها «عبد العزيز الثعالبي»، اتصلت بمؤلف: «مقالات في التاريخ القديم» وهو عبارة عن مجموعة من المساهمات حملت عنوان «خلاصة من التاريخ القديم». تم تقسيمها إلى جزأين تعرض أولاهما إلى ما وسمه الثعالبي بـ «الأدوار التي مر [بها] الشمال الإفريقي [حتى حصول] الفتح الإسلامي». واتصل ذلك بـالحضارات القرطاجية، والرومانية، والوندالية، والبيزنطية. أما ثاني تلك الأجزاء فقد رصد ما نعته الثعالبي بـ «الصراع على السيادة ... بين العرب والآريين إلى إشراق الرسالة المحمدية [كذا]»، وتوزّع هو أيضا إلى جملة من الأدوار اتصلت بما سماه الثعالبي بـالأطوار «العربي الفارسي، واليوناني الفارسي الثاني، وتاريخ اليمن». أما العيّنة الثانية التي تم الاتكاء على محتواها فقد حملت عنوان:
«تاريخ شمال إفريقيا من الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الأغلبية»، على أن تعود مؤلفة هذه المساهمة إلى مؤلفات تكميلية اهتمت بتاريخ البلاد التونسية، ونشرت خلال النصف الأول من القرن العشرين، جمع بينها على اختلاف انتماءات أصحابها اقتراحها لقراءة حول تاريخ البلاد التونسية بتّت في انتماءات التونسيين وفي جذورهم أو أصولهم. وتمثل السؤال المحوري الذي قاد هذا العرض في تعقّب كيفية تعبير المشتغلين على تلك النصوص المعيارية عن هاجس الانتماء؟ وتحديد مجمل مدركاتهم بخصوص ذلك؟ فلئن شكّلت الرواية الوطنية أرضية التقى حولها التونسيون منذ الاستقلال، وتمحورت حول ما يمكن أن نسميه بـ «الذاكرة الوطنية»، وهو ما يفترض بداهة التقاء جميع عناصرها حول مُعطى موحّد يحيل على تشكيل تونس لـ «وطن» لا يخص سوى ساكنتها، فإن أمر ذلك لا يمنع ومن وجهة نظر المؤلِفة دائما من التساؤل بخصوص طبيعة المنطق الذي دفع أغلبنا إلى الاعتقاد بأن تلك السردية وليدة لحظة الاستقلال، مع الإصرار على عدم ردّها إلى سيرورة بناء انطلقت يشكل سابق في الزمن؟ مُفترضة أن مضمون الرواية التي دأبنا على التصديق عليها منذ الاستقلال لم يشكّل على الحقيقة سوى تثبيت لسردية أحادية وُضعت لخدمة رهانات دولة الاستقلال، وإعلاء مفهوم «الدولة – الوطن» وتقديس «ذاكرتها الوطنية».
بقي أن نعرف أن ما أوردته بقية المباحث التاريخية الواردة ضمن هذا المؤلَف الجماعي، قد شدّته هو أيضا لبعضه البعض جملة من التقاطعات التي تحيل في تصوّرنا على عوائق القراءة في مسألة التنوّع حال طرح سؤال الانتماء والبتّ في حقيقة تعايش الروايات أو توجهّها نحو القطع مع جميع المسلّمات وتطوير انتاج الدلالة. فقد أشار «حسام الدين شاشية» إلى أنه وبالرغم من أهمية أعداد الوافدين على البلاد التونسية والذين تم تقديرهم ضمن الدراسات المتخصّصة بحوالي مائة ألف مُهجّر، وهو ما يعادل وفق معظم الترجيحات عُشر سُكان البلاد التونسية في بداية القرن السابع عشر، وبالرغم من تأثير هؤلاء المؤكد في رسم ملامح الشخصية الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية لما تستقيم تسميته حاضرا بـ»الأمة التونسية»، فإن أخبار أو روايات الهجرة والتوطين المتصلة بهذه المجموعات الوافدة ضمن المصادر المحليّة على غرار: «المؤنس في أخبار إفريقية وتونس»، و»الحُللّ السندسية في الأخبار التونسية»، لم تشغل سوى شذرات ضنينة لا يزيد حجمها وفي أحسن الحالات على بضع صفحات، في حين أن التمعّن في أهم الاخبار حول تاريخ توطين «الموريسكين» بتونس، يحيل على وفرة المصادر الأجنبية (إسبانية، وفرنسية). كما أن كُل المؤلفات التي أنتجها هؤلاء عن أنفسهم محفوظة بالمكتبات الأوروبية (إسبانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، فرنسا...). ولعل عدم التفصيل في رواية توطين الموريسكيين في المصادر التونسية، وانقراض معظم أثارهم الكتابية أو اندثارها، كما أسبقية اهتمام الباحثين الأجانب بالتاريخ الموريسكي قياسًا للباحثين التونسيين، مسائل تدعو إلى مُراجعة رواية انتماء هؤلاء الوافدين الاسبان لتاريخ التونسيين ولسردية انتسابهم الجمعي. لذلك يصحّ التساؤل عن كيفية تطوّر تاريخ توطين الموريسكيين؟ وما علاقة ذلك بسردية الانتماء الجماعي للتونسيين؟ ثم هل يصحّ اعتبار تغافل المصادر عن توضيح جليّة الأمر تصديقا من قبلها على ما تم ترميقه بخصوص سُهولة اندماجهم وعدم إثارة حضورهم لأي نوع من القلاقل؟
ركزت المساهمة الختامية على مقاربة المضامين التي وفّرتها عينات مختارة من مؤلفات التاريخ الجامع، ونقصد بذلك العروض التركيبية المنشورة في غضون السنوات القليلة الماضية، تلك التي حاولت وبالتعويل على تصورين متباينين جمع أهم أخبار البلاد التونسية والمغرب الأقصى وتغطية مختلف المراحل الاعتبارية، من مرحلة ما قبل التاريخ حتى وقائع الأزمنة الراهنة، مرورا بعهود التاريخ القديم فالوسيط والحديث والمعاصر. وتحيل العينتين الاعتباريتين على مؤلفين صدرا تباعا بين سنوات 2007 و2011 هما: «تونس عبر التاريخ» و»تاريخ المغرب تحيين وتركيب». وبالفعل فقد تبيّن لواضع هذه المساهمة أن العروض التي شكلت لحمة التاريخ الجامع المغربي ونسجت سداه قد تمحورت، ومثلما هو الشأن بالنسبة لرصيفه التونسي، حول تصوّرات حاولت التشديد على «مواطن التفاعل ومحطات الانتقال من مرحلة إلى أخرى [من دون] اغفال لعوامل الاستمرار ولحظات القطيعة»، والوعي بشكل مخصوص بأهمية البعد المجالي، والجمع بينه وبين البعد الزمني المنفتح على التاريخ المتوسطي، الملتزم بإعادة قراءة تاريخ المغرب وصياغة عروض مُسْتَجَدة هدفها التدقيق فيما عاشه المغاربة، ومعاودة زيارة المفاصل الزمنية الاعتبارية نقديّا، قصد التثبت من قيمتها الاجرائية ردّا وقبولا ومن وجهة نظر معرفية خالصة. فقد بادر القائمون على عملية التركيب إلى تقديم العروض السياسية «المشربة» بمعطيات تاريخية دينية وعسكرية، قبل التفرّغ لتوضيح مستويات تفاعلها مع المكونات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمعنى الشامل للكلمة. كما اعترفوا بأن «القراءة في مختلف تلك المستويات تبقى رهينة توفّر الباحثين على المصادر التاريخية الكفيلة بصياغة مضامين عروضها التحليلية والنقدية بشكل وافي وشامل، خاصة خلال فترات التعسّر أو الأزمات التي لازمت المفاصل الزمنية الانتقالية المتكرّرة. والحال أن ما كان ينبغي عليهم التشديد عليه هو نزوع مختلف دول الاستقلال بالمغارب باتجاه توظيف التصورات الايديولوجية «للتقليد الإصلاحي» وشرعية المسك بالسلطة باعتبار قيادة «معركة التحرير الوطني»، بحيث عكست الإحالة على ذلك لبسا مقصودا، الشيء الذي ساهم في جبّ المسافة القائمة موضوعيا بين إرث القرن التاسع عشر الإصلاحي والتوجّهات التي دافعت عنها دول الاستقلال، فأُخضعت الرواية الإصلاحية للترميق، بل وإلى ابتسار مضمون الوقائع التاريخية والخلط بين المنجز وأشكال التعبير عنه، أو بين المدركات والوقائع، مع الذهول عن طبيعة السياقات التاريخية والصراعات التي جدّت بين الفئات الاجتماعية ذات المصالح المتباينة، فضلا عن الانزلاق في التوظيف أو التعبئة المفضوحة، مع التعتيم المقصود على حقيقة مساهمات مختلف الحركات السياسية والثقافية التي ساهم حضورها وتنافسها أيضا في صياغة تاريخ مجال المغارب المعاصر.
بقلم الأستاذ لطفي عيسى
المصدر: جريدة المغرب
فيديو حصة التقديم (صفحة فايسبوك جمعية تونس الفتاة)
صور من حصة التقديم (صفحة فايسبوك جمعية تونس الفتاة)
أعانكم الله ونفع بعلمكم ومجهودكم
ReplyDeleteشكرا جزيلا
Delete