تنطوي البحوث الأنتروبولوجية والتاريخية على غرار مؤلّفات "خوزي غونزاليز ألكانتود José A. Gonzalez Alcantud " و"رودريغو دي زياس Rodrigo de Zayas "و"غابريال مرتيناز غرو Gabriel Martinez-Gros " على كثير من العمق والطرافة في تناولها لمدلول الهوية الأندلسية ومحاولتها فهم تجذّر الطابع العربي الإسلاميّ المنغرس عميقا في "النحن الجمعيّ" الإسباني كخاصية من خاصيات المعيش اليوميّ. وهي خاصية لم يستطع الواقع الثقافيّ والحضاريّ الإسبانيّ تجاوزها ماضيا وحاضرا. كما تنجلي تلك المقاربات على المضمون الواقعي لاستراتيجيات التعامل مع البعد الثقافي في صياغة الذاكرة العربية - الاسبانية والمغاربية - المتوسطية حاضرا.
فقد أوضح "ألكانتود Alcantud ضمن مؤلف له حمل عنوان "عربي الأندلس Le Maure d’Andalousie " وهو مؤلف صدر مترجما إلى الفرنسية سنة 2007 ، أن التعامل مع ظاهرة الحضور العربي الإسلامي بالأندلس ضمن المخيال الجمعيّ للأسبان قد تركّز على تحويل تاريخية أو واقعية ذلك الحضور، الذي لا يحتاج إلى كبير برهان، إلى مجرد استعارة Trope أو صورة ثقافية نمطية. فقد درج مثقفو أسبانيا وسياسيوها، خلال القرنين الماضيين ( 19 – 20 )، على تجسيم صورة ملتبسة لذلك الحضور تراوحت بين المغالاة في الافتتان والإسراف في الكراهية. كراهية تعمل على استئصال كل ما يمكن أن يذكّر من قريب أو من بعيد بتاريخ المسلمين أو بتفاصيل عالمهم، من خلال إلغاء وجوده الواعي وإكسابه جذورا نمطية ذات طابع تخيّليّ رومانطقيّ غير خافٍ. مما توّلد عنه ما أسماه "ألكانتود" تأسيا بمصطلحات التحليل النفسيّ ومفاهيمه بـ" أداة الكراهية objet de phobie" التي تحيل دلاليا على شيء نفرط في تعشّقه إلى حدّ الكراهية.
ولئن توفرت هذه الصورة على حدّ كبير من المبالغة، مُعبّرة عن حالة نفسية غير معلنة، فإنّها تكشف بعمق عن طبيعة الذهنيات الإسبانية السائدة حاضرا، وعمّا يشوب تلك الذهنيات من خلل تجسم واقعا في انطواء جانب خفيّ من أعماقها على تخيل مرضيّ للغائب أو للمطرود المشرّد الذي تقضّ إمكانية عودته المفاجئة مضاجع الجميع، تماما مثل "السباستيانية sébastianisme" لدى البرتغاليين و"الدراكلية draculisme" لدى سكان رومانيا بأوروبا الشرقية.
يعمل الغائب ضمن هذا التصوّر كآخر منغرس في الذات ويُستدعى بالتعويل على قِناعة Fractal وهي أداة تُستحضر للفصل بين الذات والأخر مع تعويم تداخل الهويات أو ازدواجها بالإسراف في الطقوس الشكلية المؤدية إلى إعدام الوجود الواقعيّ للآخر قصد الحفاظ على صورة فنية أو حسية له لا تهم واقعيتها بقدر ما تُستدعى شمال المتوسط لفظ المشاكل النفسية المترتبة على واقعية الاشتراك الثقافي بين الضفتين.
يحفر "ألكانتود Alcantud" عميقا في كيفية تعقّل الأسبان حاضرا لأكثر ألعابهم إثارة مفككا بكبير عناية تاريخ "مصارعة الثيرانTauromachie "، مبينا الدور المحوريّ الذي عاد لتقليد الغالب وإعادة التملك الثقافيّ في التأسيس لتلك الممارسة وذلك بالعمل على تحويل الألعاب الرومانية المقامة في معلم "السرك cirque" إلى ألعاب تقام في ساحة مهيأة لصراع الثيران Plaza de Toros ودفع ألعاب الفروسية والمبارزة joutes chevaleresques لدى سادة العرب وأشرافهم، نبلاء القشتاليين إلى إثبات تفوقهم، شجاعة وفروسية على أولئك العرب تحديدا joutes chevaleresques castillanes . مع تعمد الربط مجازا بين وحشية الثور المعبرة رمزيا عن بدائية العربي Moro et Toro وعن بطولته ونبالته الشجاعة ووثنيته الكافرة في آن. مما يُحيل على وضعية نفسية ملتبسة في التعامل مع الغيرية الإسلامية بالأندلس هي مزيج من الجاذبية والنفور.
ولئن بدت الـ corrida أو لعبة مصارعة الثيران إطارا نموذجيا لفهم ما تدّعيه بعض الأبحاث المتصلة بالثقافة الأندلسية حول الحضور القويّ للحسّ العاطفيّ فيما تسمّيه، ترميزا لما خلفه العرب المسلمين بالأندلس بـ " الثقافة الحسية Passional culture "، فإنّ مستويات فنية وجمالية شكّلت ولا تزال عناصر ناظمة للهوية الإسبانية على غرار "الفلامنكو Flamenco" مثلا، قد أُخضعت بدورها لنفس التقييمات المضللة التي تشدد على حضور ما تسميه بـ "المشاعر السحرية émotion magique" تلك التي لا تخلو - بزعم من يدّعون وجودها طبعا- من مدلول شبقيّ يمجّد قيم الذكورة ويعلي من شأنها.
شكّل تعمّد ربط فنّ "الكوريدا" ذي الأصول المتنوعة المتمازجة والمشتركة في مخيال الأسبان الجمعيّ بأصول عربية إسلامية إذن، تعبيرا ذا دلالة بليغة عن كيفية اشتغال ما نعتته الانتروبولوجيا الثقافية بالقِنَاعة Fractal . فقد سمح مثل ذلك الانزياح أو تلك الاستعارة بإدراج مصارعة الثيران ضمن عالم النبالة والمبارزة والفروسية، مقرّبا بينها وبين تعشّق الممارسة البطولية، مُبعدا إياها في نفس الوقت عن واقع البوادي أو الأرياف الرث الوضيع. لذلك يلحّ المؤلف على ضرورة العمل على تفكيك الأسطورة التي شيدها الاستشراق حول الأندلس قصد تجسير علاقة سوية بين ضفتي الحوض الغربي للمتوسط.
فصورة العربي الأندلسي أو المغربيّ تفقد كثيرا من واقعيتها كلما تمّ إخضاعها إلى رُؤًى مثالية، وهي رُؤى ليس للغرب الأوروبيّ أيّ حظّ في تجاوزها إذا لم يقطع نهائيا مع استيهاماته الخيالية بخصوص مدلول الحدود الثقافية بين ضفّتي المتوسط. لذلك فإنّ العمل على تفكيك ما نعته مؤلف "عربيّ الأندلس Le Maure d’Andalousie" بـ"الاتنولوجية الروائية ethnofiction" المضللة التي يساهم تواصلها في تغذية نوع من التناظر التخيّليّ في كيفية تشكيل سكّان ضفّتي المتوسط لهوياتهم الثقافية، هي من أوكد مهام البحث الأنتروبولوجي المشتغل ميدانيا على المجال الأندلسيّ حاضرا.
ويبدو مستوى التمازج من أفضل الأبعاد تعبيرا عن الهوية، فمن خلاله نتبيّـن أن لا حضارة بمستطاعها الانعزال عن تأثير التيارات الثقافية العابرة للعالم، لأن توهّم النقاء الخالي كليا من أيّ تمازج يلغي إنسانيتنا. فمعاني النقاء العرقي والاصطفاء الرباني والأفضلية الثقافية واحتكار أحقية التدخل في شؤون الغير، هي الجدار العازل للهويات في قلب الائتلاف الإنساني المتنوع. فنحن لا ننتسب حاضرا لأوطاننا بمجالات سيادتها الضيقة فحسب بل إلى المواضع المؤثثة لذاكرتنا وللّهجات واللغات التي تفعل معانيها في نبض وجداننا محددة طريقة تعبيرنا عن انتسابنا الكوني، ولآلهة حرة لا تفرض علينا عبادتها ولأماكن إقامة نختارها بمحض إرادتنا، وللغات يصادف استعمالها هوى في نفوسنا.
إن مقاييس "العالم السوق" أو "السوق العالم" حاضرا تجعل البشرية تتأرجح بين قطبين متنافرين تجسّمهما الندرة والوفرة مما يترتّب عليه واقعيا تتالٍ محيّر لموجات الهجرة المكثفة التي أضحى تفاقمها يشبه في هزاته العنيفة ما يحدثه تتالي الأعاصير المخترقة لأكثر حدودنا انغلاقا من فزع. والحال أن مبلغ "الإنسان العالم L’Homo Sapiens" الذي وصلته البشرية منذ بعض مئات الآلاف من السنين مندرج كلية في منطق الهجرة والتنقل واختراق الصحاري والجبال والثلوج وقلب الأعالي على الأسافل نائيا بالنفس عن شبح الفاقة والحاجة والمجاعة، وتعقبا للمظان المؤدية إلى حيث رغد المأكل والمشرب. فالهجرة المشكلة لكينونة البشر حاضرا لا تمثل مطلق التهديد أو الوعد بانتصار الأسوأ، كما تريد دول الغرب ومنظّرو صراع الحضارات كذبا وبهتانا إقناعنا به، بينما تكمن حيرتنا الحقيقة في شطط مجال الوفرة غربا في إعلاء جدرانه ومغالاته في الانغلاق والرضوخ لسهولة الحلول الأمنية.
تبدو حاجة التاريخ الغربي شديد التمركز حول ذاته حاضر إلى الامتداد أفقيا قصد مزج ذاكرته بالنهل من مختلف الينابيع المشكلة للحضارة البشرية من أوكد مهام صناعة التواريخ "الوطنية" الرسمية بتك المجالات.
والمهم عند هذا الحد هو رصد كيفية تفاعل الدراسات التوليفية المنجزة حول تاريخ الأندلس من قبل بعض المؤرخين المجددين منذ نهاية القرن العشرين، مع مثل هذه التوجهات على غرار أبحاث الفرنسيين "غيشار Guichard" و"مارتينيزMartinez " والإسباني "فانخولFanjul " مما يبرهن عن إصرار غير مألوف على القطع مع التمثلات المتصلة بما سمي بـ"أسطورة الأندلس" « Le mythe andalou » .
لبلوغ هذا الهدف تم التعويل خاصة على نتائج البحوث الأثرية، بالإضافة إلى تحقيق ونشر المصادر المخطوطة، فضلا عن تطور مستوى تحكم البحث التاريخي الحديث في نماذج تفكيك الخطاب وتوسيع عملية توظيفه عند مقاربة المصادر التاريخية الكلاسيكية المتداولة، وهو ما حاول المؤرخ الفرنسي "غابريال مارتينيز غرو Gabriel Martinez - Gros" انجازه بتوفيق كبير ضمن مؤلفه الصادر عن مؤسسة سندباد للنشر منذ سنة 1998 حول ما وسمه بـ"الهوية الأندلسية".
بيّن "مارتينيز" أن المتن المصدري المعوَّل غالبا على رواياته في صياغة الفرضيات "العلمية" للبحوث التاريخية المنجزة حول تاريخ نشأة الأندلس لم يتم نقل رواياته إلا بشكل متأخر عن حصول الأحداث. كما أن نظرة ذلك المتن لتسلسل الوقائع لا تخلو هي أيضا من توجهات إيديولوجية متخفية تتصل أساسا بالدفاع عن شرعية سلطة الخلافة الأموية بالأندلس، يقتضي منطق الأمانة والموضوعية العلمية، الكشف عنها.
ماذا يمكن أن نقول بخصوص "هوية الأندلسيّ" طوال تاريخه الإسلاميّ؟ هل يستقيم أن نعتبره بربريا كما شددت على ذلك الفرضيات البحثية التي صاغها بكل عناية المؤرخ الفرنسي "بير غشار Pierre Guichard" 1؟ ألا تثير فينا هويته العربية المعلنة بإسراف والمعروضة بإطناب ضمن دفات كتب الأخبار والحوليات رغبة لا تقاوم في التأكد من صحة ما تدعيه ؟
يذكّر "غابريال مارتينيز غرو Gabriel Martinez-Gros " في هذا الصدد بأن تحقيق الروايات التاريخية وتنويع مصادرها بغرض المكافحة، لا يعفي المؤرخ من التساؤل. فالسؤال هو الذي يسمح للباحث بالابتعاد قصدا عن السياقات التي تعمل الروايات المنقولة على إقناعنا بوجاهتها. كما أن سؤاله هو الذي يتكفل بإعادة تنظيم الخبر وفقا لخطاطة جديدة لم يكن لها أي حضور في أذهان من عاصروا المرحلة التاريخية التي شملتها أبحاثه. فمهمة المؤرخ هي إعادة ترتيب الخطاب المعروض عليه وضرب توازناته وتكثيف الأسئلة المعاكسة كليا للسياق الذي اقترحه الروايات عليه. هذه المسافة التي يحتفظ بها المؤرخ إزاء مضمون الرواية، وكذا القدرة على محاورة تلك الرواية وفق أسئلة تجانب قصدا سياقها، هما ما يضمن ما يُسمى بحثا بـ "المسافة النقدية"، تلك التي تُكسب تماريننا سمة المعرفة العلمية وتُعطي معنى نسبيا لوجودنا أيضا.
تتصل جذور الكتابة التاريخية حول الأندلس بعمل المخبرين والرّواة على إكساب مرحلة الحكم الأموي بالأندلس المتمسك بقيم العروبة الصرفة الحد المطلوب من الشرعية إزاء منافسيه على الخلافة من الفاطميين الذين لم يكن لهم أن يصلوا إلى السلطة لولا دعم البربر، أو العباسيين الذين آزرهم الموالي من الفرس في شق عصا الطاعة والخروج عن الشرعية الأموية بالمشرق.
غير أنّ هذا التصور لشرعية سلطة الأمويين بقرطبة والتشديد على نقاء عروبتهم بالقياس إلى جميع منافسيهم، غالبا ما يصطدم بحاجزين كبيرين: هما تفسير الهزيمة التي منيت بها الخلافة الأموية بالمشرق سنة 132 / 750 م، وانكفاء ممثلي تلك الخلافة بمجال المغرب بعد حصول ذلك الحدث الفارق. تلك هي عناصر الإشكالية التي حاول كتّاب أخبار ملوك بني أمية بالأندلس، بكل ما توفرت عليه خطبهم من إستراتيجيات الحسم بشأنها.
يحاول خطاب "المبايضة الأموية" بخصوص حضور بني أمية بالأندلس، الجمع بين ثنائيات عدّة، على غرار "الهجرة والعقاب"، و"الإسلام والعروبة". ويكشف المضمون المتواري بين فقرات كتاب ابن حزم "طوق الحمامة" بطريقته الخاصة على عدم غرابة مسألة الهوية التاريخية الأموية عن الفكر الأندلسي. فمؤلف "الطوق" هو عبارة عن إخراج روائيّ يشدد سياقه على فهم خاص "للهوية الأندلسية"، فضمن الحديث الختمي لهذا الأثر، يأخذنا ابن حزم إلى ساحة خارجية تسمح أضواؤها المنصوبة على منصة عالية بمعاينة حضور الأمير الأمويّ، يرافقنا في تلك المعاينة وزير ذلك الأمير ابن غانم الذي يشغل دور المشاهد والموضب للمشهد في آن، رغبة في تضعيف تأثير ذلك المشهد على متابعيه أو متلقيه.
ولئن لم يكن من الصعب على الأمير الموجود فوق تلك المنصة التفطن لحضورنا، فإن عدم معرفته موضعيا بملامحنا لا تمنعه قطعا من التعرف على سمات وزيره الجالس حذونا.
تتطلب ترجمة هذا المشهد التصويري إلى معطيات واقعية، وفقا لفرضيات "مارتينيز"، التشديد على أن مؤلفي كتب أخبار ملوك بني أمية بالأندلس وإن لم يكن في منظورهم القبلي أننا كباحثين سنتفحص بكامل التركيز مختلف الحجج التي استجلبوها في تأكيد روايتهم بعد ألف سنة، فإنهم كانوا على وعي تام بأن من نافسوهم في وضع أخبار الملوك الفاطميين والعباسيين لن يضيّعوا فرصة مساءلتهم حول موضوع شرعية ادعاء الخلافة بل وتسفيه منطق حججهم أو براهينهم حول تلك المسألة تحديدا.
إن امتداد وحِدّة الجدل القائم بين الباحثين منذ موفى القرن التاسع عشر حول مسألة هوية الأندلسيين، يبرهنان على أن هناك نية مضمرة لحجب الحقيقة عن أعيننا. غير أن العودة المجددة إلى نفس الموضوع تبين أن مضمون المصادر يشجع واقعا على إعادة طرح نفس السؤال، علما أن ذلك المضمون يقدم للباحثين في تاريخ الأندلس جميع المعطيات التي تساعدهم على اقتراح إجابة تتسم بأكبر قدر من الدقة. وهي معطيات تبرهن، في جانب كبير منها على الأقل، على حقيقة الأصول العربية للأندلسيين، في حين أن شقها الأخر، الذي قام أولئك المخبرون أو الدعاة بدسه بمكر في شكل تنازلات ظاهرية لمساجليهم ضمن ما نقلوه من روايات، يطرح الموضوع من زوايا معاكسة لتك الحقيقة تماما. فقد تم تحويل جميع تلك المعطيات أو البراهين المفصّلة بعناية بليغة ضمن تلك المؤلفات كي تشغل الوظيفة المحددة لها ضمن هذا العرض الروائي أو تلك الخرافة المحبوكة وذلك على امتداد قرن كامل من تحبير الروايات حول تاريخ الأندلس بدءا بكتاب "النشر" وصولا إلى "الطوق حمامة" ابن حزم.
ولئن بدا من غير المنطقي أن نأمل الخروج من قراءة مجمل تلك النصوص بحقائق مختلفة عن تلك التي حوتها دفاتها، فإن هذا الحكم لا يمكن أن يصدُق عن رغبة الباحث في رصد التحويرات الشكلية الطارئة على صياغة الواقعة المروية، وهي تحويرات انطوت على عديد المؤشرات أو التلميحات الدالة على شاكلة الرفض القاطع واللبس وعدم الاتفاق بخصوص مدلول أو مقصد ما، وكذا الإصرار المغالي على إثبات الوفاء لطرف فاعل دون غيره، والتوقف عند الزاوية التي ناقش من خلالها جميع من رصدوا تلك التحويرات الشكلية الطارئة على الروايات واستشفوا مقاصدها.
وإذ يوضح المؤلف مختلف تصوراته بخصوص "الهوية الأندلسية" مُعترضا على نتائج بحث غيره من المختصين ممن أسرفوا - بزعمه طبعا - في التعويل على نماذج المقاربات البنيوية متوسلين بنتائج البحث الديمغرافي التاريخي على غرار دراسة "بيار غيشار" الداعمة لفرضية "الهوية الأندلسية البربرية"، فإنه قد اختزل اعتراضه على تلك التوجهات في ما نعته ضمن خاتمة عمله بفهرس للأفكار أو للكلمات المفاتيح التي اخترقت معظم التحاليل المقترحة ضمن مختلف فصول مؤلفه:
- خلافة التبس في تشكيل ذاكرتها الذنب بالشرعية، اتخذت من مجال خارج منبتها الأصلي موضعا أليفا. خلافة مُختطفة أخفت جريرتها على أرض اغتصبها القوط المعاقبون من قبل الفاتحين العرب، أولئك الذين انتبذوا فسيحا من تلك الأرض فاتخذوا منه موطنا أحاطت به أدغال وعرة وخطيرة قُدّر عليهم اختراقها تكفيرا عن خطيئة التفريط في ملكهم الذي اختطفه منهم موالي العباسيين محتفلين بانتصارهم في عقر دار بني أموية مشرقا.
- خلفاء تأكدت شرعيتهم وفقا لمنظور "ابن حيان"، بإزاحة شبح النـزاعات "الجاهلية" التي اشتعلت نيـرانها مجددا على أرض أسبانيا وتحطيم غلواء المتبجحين بالشرعية من موالي سلالة بني العباس الذين أقصوهم عن حكمهم مشرقا. ملوك ورثوا "قوط" أسبانيا وخلفاء نسلوا، إذا ما جارينا منطق "ابن قتيبة"، عن أجداد أشراف كرماء من عرب المشرق. خلفاء وسّعوا، طبقا لما أكّده صاحب "الجمهرة" سند الإسلام ليمتد حضوره الفاعل من جزيرة العرب إلى جزيرة الأندلس.
- عرب قاوموا من منظور "مُغْرِبِ ابن عذاري" ببسالة خبث أرض شديدة العداء، وفدوا من مغارب بلاد الإسلام مشكّلين، على ما أورده "ابن أبي زرع" في"روض القرطاس"، أَدلِاّء للشرعيات المنفية مشرقا. عرب من الماضي الأثير، فقدوا سلطتهم دون أن يكِفّوا عن خدمة الإسلام لغة وعلما وملكا حسب "تاريخ ابن خلدون".
"الخلافة: الذنب والتوبة"، "العرب والموالي"، "النفي والشرعية"، "أرض أعداء فاتحة ذراعيها للتبنّي" "المشرق والمغرب". تتردد هذه الكلمات بلا انقطاع، تتناقلها ألسنة شخوص كتاّب الأخبار وواضعي الروايات، مشحونة بقيم متباينة خضع تشكيلها إلى مشاعر ناقلي الأخبار وأحاسيسهم. فمن عجائب التاريخ وعبث الأقدر أن يقتنص مؤلف "روض القرطاس" لابن أبي زرع، وهو مؤلف أخبار وضع في حقّ حكام بني مرين نظير سخاء المكافئة، مكانة تفوق قيمة استنتاجات ابن خلدون وتنبؤاته العبقرية بخصوص تاريخ المغرب والأندلس. فالروايات التي قام بجمعها بخصوص تأسيس مدينة فاس تثبت قدرته الفائقة على توظيف الرصيد الرمزي للشرعية الأموية في اتجاهات غير مسبوقة، مُكسبة فعل التأسيس أقدارا لم يسبقه غيره إلى تمثّلها أو استنباطها بتلك الطريقة.
نعثر في ثنايا الروايات المتصلة بفعل تأسيس مدينة فاس الإدريسية، على تلازم مربك بين سيناريو الشرعية الأموية بالأندلس ورصيفه الإدريسي – المريني بالمغرب الأقصى. شرعية مقصاة من قبل حكام بغداد تحدّرت عن "عترة النبي". "عترة" رحب بها بسخاء سكان بلاد المغرب، أولئك الذي احتلوا موقع ناظر موقع سكان المجال الإسباني في الروايات الخاصة بتأسيس بلاد الأندلس، شريطة أن تقوم تلك "العترة" وداخل مجال التبني بالتكفير عن جريرة الإسراف في منح ثقتها لمشرق متآمر.
ولئن تم التعويل مغربا على سند عربي، فإن ذلك قد قُصد منه مدّ جذور الشرعية الإدريسية الشريفة عميقا في أرض بربرية، باستئلاف الموالي من المغاربة الذين ضارعت أمانتهم تلك التي أظهرها الأنصار لمن هاجر بمعية النبي إلى المدينة.
هكذا لم تجد "سيرة" الشرفاء بالمغرب كبير عناء في تقمص ذات الأدوار التي عادت لملوك بني أمّية في الأندلس. فلئن كان مصطلحا "الشرعية المنفية" و"عرب المغرب" يوجزان التعبير عمّا نعته "مارتينيز" بـ"الإيديولوجية الأموية" وبـ"الهوية الأندلسية"، ولئن كان أسباط النبي المغاربة ليسوا بأقل عروبة من خلفاء قرطبة، فإنه يتعين الإقرار من وجهة نظر "مارتينيز" دائما أن أولئك الأحفاد أو الأسباط أوضح شرعية من ملوك بني أمية بالأندلس والصق منهم انتسابا بمجال المغرب، لذلك لم يترك محبّرو أخبارهم فرصة التقاط خطاب التأسيس الأموي بالأندلس تمر دون الاستفادة منه في ترسيخ شرعيتهم بعد إكساب ذلك الخطاب توجّها روائيا يتفق بالكامل مع مقاصدهم. فهل يستقيم أن نزعم، والحال على ما بيّنا بأن مياه نهر الأندلس الممتدة قد استوعبتها مجاري مياه الشرف المغربي وامتزجت بها بالكامل؟
تبدو هذه الفرضية، التي تعيد صياغة ما سبق أن وسمته قراءة "ألكنتود Alcantud" الأنثروبولوجية بـ "الاتنولوجيا الروائية ethnofiction" من وجهة نظر الرواية التاريخية، مغرية ومثيرة لذلك فهي حريّة بالاختبار والتفحص. كما تتجلى من خلال ما رصدناه من مقاربات بخصوص نموذج "الهوية الأندلسية" طرافة التوجهات البحثية المتصلة بتعقل مدلول الهوية حاضرا، وفتحها لسبل مجددة -حتى وإن لم تتفاد مثل غيرها السقوط في عناقيد متشابكة من المحاذير- في تناول تاريخ الأندلس من خلال ربطه بتوجهات البحث الميداني الأنتروبولوجي ونماذج المقاربة التحليلية النفسية وتاريخ التمثّلات المتعامل مع النص التاريخي كخطاب يتضمن بالضرورة مجموعة من الاستراتيجيات يتعين على المؤرخ تفكيكها بدقة وعناية، قصد التكشّف على مدلولها الخفي. فالجدران القاتمة للهويات النقية تترصد جميعنا على هذه الضفة كما على تلك من بحيرتنا المتوسطية، لذلك فإن مضمون العلاقة التي نريد أن نجتهد بصدق في بنائها مع الأخر، بجميع مستويات حضور غيرته الحيوانية والنباتية والمحيطية والثقافية والبشرية أو الإنسانية، هي التي ستجسم واقعيا علوا مبادئنا وكرم سجايانا وحاجتنا المستديمة إلى إثراء ذواتنا. في حين أن فتح آذاننا لحملات التخويف أو للدعاوى المحمومة إلى الانغلاق والتمترس خلف الجدران السميكة لا يمكن أن يخدم ضمنيا سوى القبول طوعا بمنطق الأسوأ والتعوّد على ما لا نطيق والخنوع المخزي لمنطق التوائم مع البشاعة مستأصلين بذلك تشوّفنا الإنساني إلى علياء الفضيلة ومطلق الجمال.
هامش:
1- Guichard (Pierre), Al-Andalus 711 – 1492 : Les structures sociales dans l’Espagne musulmane. Martinez – Gros (Gabriel), L’identité andalouse, éd. Sindbad, Paris 1998.Fanjul (S), Al-Andalus contra Espana la forja del mito (Al-Andalus contre l’Espagne la force du mythe
فقد أوضح "ألكانتود Alcantud ضمن مؤلف له حمل عنوان "عربي الأندلس Le Maure d’Andalousie " وهو مؤلف صدر مترجما إلى الفرنسية سنة 2007 ، أن التعامل مع ظاهرة الحضور العربي الإسلامي بالأندلس ضمن المخيال الجمعيّ للأسبان قد تركّز على تحويل تاريخية أو واقعية ذلك الحضور، الذي لا يحتاج إلى كبير برهان، إلى مجرد استعارة Trope أو صورة ثقافية نمطية. فقد درج مثقفو أسبانيا وسياسيوها، خلال القرنين الماضيين ( 19 – 20 )، على تجسيم صورة ملتبسة لذلك الحضور تراوحت بين المغالاة في الافتتان والإسراف في الكراهية. كراهية تعمل على استئصال كل ما يمكن أن يذكّر من قريب أو من بعيد بتاريخ المسلمين أو بتفاصيل عالمهم، من خلال إلغاء وجوده الواعي وإكسابه جذورا نمطية ذات طابع تخيّليّ رومانطقيّ غير خافٍ. مما توّلد عنه ما أسماه "ألكانتود" تأسيا بمصطلحات التحليل النفسيّ ومفاهيمه بـ" أداة الكراهية objet de phobie" التي تحيل دلاليا على شيء نفرط في تعشّقه إلى حدّ الكراهية.
ولئن توفرت هذه الصورة على حدّ كبير من المبالغة، مُعبّرة عن حالة نفسية غير معلنة، فإنّها تكشف بعمق عن طبيعة الذهنيات الإسبانية السائدة حاضرا، وعمّا يشوب تلك الذهنيات من خلل تجسم واقعا في انطواء جانب خفيّ من أعماقها على تخيل مرضيّ للغائب أو للمطرود المشرّد الذي تقضّ إمكانية عودته المفاجئة مضاجع الجميع، تماما مثل "السباستيانية sébastianisme" لدى البرتغاليين و"الدراكلية draculisme" لدى سكان رومانيا بأوروبا الشرقية.
يعمل الغائب ضمن هذا التصوّر كآخر منغرس في الذات ويُستدعى بالتعويل على قِناعة Fractal وهي أداة تُستحضر للفصل بين الذات والأخر مع تعويم تداخل الهويات أو ازدواجها بالإسراف في الطقوس الشكلية المؤدية إلى إعدام الوجود الواقعيّ للآخر قصد الحفاظ على صورة فنية أو حسية له لا تهم واقعيتها بقدر ما تُستدعى شمال المتوسط لفظ المشاكل النفسية المترتبة على واقعية الاشتراك الثقافي بين الضفتين.
يحفر "ألكانتود Alcantud" عميقا في كيفية تعقّل الأسبان حاضرا لأكثر ألعابهم إثارة مفككا بكبير عناية تاريخ "مصارعة الثيرانTauromachie "، مبينا الدور المحوريّ الذي عاد لتقليد الغالب وإعادة التملك الثقافيّ في التأسيس لتلك الممارسة وذلك بالعمل على تحويل الألعاب الرومانية المقامة في معلم "السرك cirque" إلى ألعاب تقام في ساحة مهيأة لصراع الثيران Plaza de Toros ودفع ألعاب الفروسية والمبارزة joutes chevaleresques لدى سادة العرب وأشرافهم، نبلاء القشتاليين إلى إثبات تفوقهم، شجاعة وفروسية على أولئك العرب تحديدا joutes chevaleresques castillanes . مع تعمد الربط مجازا بين وحشية الثور المعبرة رمزيا عن بدائية العربي Moro et Toro وعن بطولته ونبالته الشجاعة ووثنيته الكافرة في آن. مما يُحيل على وضعية نفسية ملتبسة في التعامل مع الغيرية الإسلامية بالأندلس هي مزيج من الجاذبية والنفور.
ولئن بدت الـ corrida أو لعبة مصارعة الثيران إطارا نموذجيا لفهم ما تدّعيه بعض الأبحاث المتصلة بالثقافة الأندلسية حول الحضور القويّ للحسّ العاطفيّ فيما تسمّيه، ترميزا لما خلفه العرب المسلمين بالأندلس بـ " الثقافة الحسية Passional culture "، فإنّ مستويات فنية وجمالية شكّلت ولا تزال عناصر ناظمة للهوية الإسبانية على غرار "الفلامنكو Flamenco" مثلا، قد أُخضعت بدورها لنفس التقييمات المضللة التي تشدد على حضور ما تسميه بـ "المشاعر السحرية émotion magique" تلك التي لا تخلو - بزعم من يدّعون وجودها طبعا- من مدلول شبقيّ يمجّد قيم الذكورة ويعلي من شأنها.
شكّل تعمّد ربط فنّ "الكوريدا" ذي الأصول المتنوعة المتمازجة والمشتركة في مخيال الأسبان الجمعيّ بأصول عربية إسلامية إذن، تعبيرا ذا دلالة بليغة عن كيفية اشتغال ما نعتته الانتروبولوجيا الثقافية بالقِنَاعة Fractal . فقد سمح مثل ذلك الانزياح أو تلك الاستعارة بإدراج مصارعة الثيران ضمن عالم النبالة والمبارزة والفروسية، مقرّبا بينها وبين تعشّق الممارسة البطولية، مُبعدا إياها في نفس الوقت عن واقع البوادي أو الأرياف الرث الوضيع. لذلك يلحّ المؤلف على ضرورة العمل على تفكيك الأسطورة التي شيدها الاستشراق حول الأندلس قصد تجسير علاقة سوية بين ضفتي الحوض الغربي للمتوسط.
فصورة العربي الأندلسي أو المغربيّ تفقد كثيرا من واقعيتها كلما تمّ إخضاعها إلى رُؤًى مثالية، وهي رُؤى ليس للغرب الأوروبيّ أيّ حظّ في تجاوزها إذا لم يقطع نهائيا مع استيهاماته الخيالية بخصوص مدلول الحدود الثقافية بين ضفّتي المتوسط. لذلك فإنّ العمل على تفكيك ما نعته مؤلف "عربيّ الأندلس Le Maure d’Andalousie" بـ"الاتنولوجية الروائية ethnofiction" المضللة التي يساهم تواصلها في تغذية نوع من التناظر التخيّليّ في كيفية تشكيل سكّان ضفّتي المتوسط لهوياتهم الثقافية، هي من أوكد مهام البحث الأنتروبولوجي المشتغل ميدانيا على المجال الأندلسيّ حاضرا.
ويبدو مستوى التمازج من أفضل الأبعاد تعبيرا عن الهوية، فمن خلاله نتبيّـن أن لا حضارة بمستطاعها الانعزال عن تأثير التيارات الثقافية العابرة للعالم، لأن توهّم النقاء الخالي كليا من أيّ تمازج يلغي إنسانيتنا. فمعاني النقاء العرقي والاصطفاء الرباني والأفضلية الثقافية واحتكار أحقية التدخل في شؤون الغير، هي الجدار العازل للهويات في قلب الائتلاف الإنساني المتنوع. فنحن لا ننتسب حاضرا لأوطاننا بمجالات سيادتها الضيقة فحسب بل إلى المواضع المؤثثة لذاكرتنا وللّهجات واللغات التي تفعل معانيها في نبض وجداننا محددة طريقة تعبيرنا عن انتسابنا الكوني، ولآلهة حرة لا تفرض علينا عبادتها ولأماكن إقامة نختارها بمحض إرادتنا، وللغات يصادف استعمالها هوى في نفوسنا.
إن مقاييس "العالم السوق" أو "السوق العالم" حاضرا تجعل البشرية تتأرجح بين قطبين متنافرين تجسّمهما الندرة والوفرة مما يترتّب عليه واقعيا تتالٍ محيّر لموجات الهجرة المكثفة التي أضحى تفاقمها يشبه في هزاته العنيفة ما يحدثه تتالي الأعاصير المخترقة لأكثر حدودنا انغلاقا من فزع. والحال أن مبلغ "الإنسان العالم L’Homo Sapiens" الذي وصلته البشرية منذ بعض مئات الآلاف من السنين مندرج كلية في منطق الهجرة والتنقل واختراق الصحاري والجبال والثلوج وقلب الأعالي على الأسافل نائيا بالنفس عن شبح الفاقة والحاجة والمجاعة، وتعقبا للمظان المؤدية إلى حيث رغد المأكل والمشرب. فالهجرة المشكلة لكينونة البشر حاضرا لا تمثل مطلق التهديد أو الوعد بانتصار الأسوأ، كما تريد دول الغرب ومنظّرو صراع الحضارات كذبا وبهتانا إقناعنا به، بينما تكمن حيرتنا الحقيقة في شطط مجال الوفرة غربا في إعلاء جدرانه ومغالاته في الانغلاق والرضوخ لسهولة الحلول الأمنية.
تبدو حاجة التاريخ الغربي شديد التمركز حول ذاته حاضر إلى الامتداد أفقيا قصد مزج ذاكرته بالنهل من مختلف الينابيع المشكلة للحضارة البشرية من أوكد مهام صناعة التواريخ "الوطنية" الرسمية بتك المجالات.
والمهم عند هذا الحد هو رصد كيفية تفاعل الدراسات التوليفية المنجزة حول تاريخ الأندلس من قبل بعض المؤرخين المجددين منذ نهاية القرن العشرين، مع مثل هذه التوجهات على غرار أبحاث الفرنسيين "غيشار Guichard" و"مارتينيزMartinez " والإسباني "فانخولFanjul " مما يبرهن عن إصرار غير مألوف على القطع مع التمثلات المتصلة بما سمي بـ"أسطورة الأندلس" « Le mythe andalou » .
لبلوغ هذا الهدف تم التعويل خاصة على نتائج البحوث الأثرية، بالإضافة إلى تحقيق ونشر المصادر المخطوطة، فضلا عن تطور مستوى تحكم البحث التاريخي الحديث في نماذج تفكيك الخطاب وتوسيع عملية توظيفه عند مقاربة المصادر التاريخية الكلاسيكية المتداولة، وهو ما حاول المؤرخ الفرنسي "غابريال مارتينيز غرو Gabriel Martinez - Gros" انجازه بتوفيق كبير ضمن مؤلفه الصادر عن مؤسسة سندباد للنشر منذ سنة 1998 حول ما وسمه بـ"الهوية الأندلسية".
بيّن "مارتينيز" أن المتن المصدري المعوَّل غالبا على رواياته في صياغة الفرضيات "العلمية" للبحوث التاريخية المنجزة حول تاريخ نشأة الأندلس لم يتم نقل رواياته إلا بشكل متأخر عن حصول الأحداث. كما أن نظرة ذلك المتن لتسلسل الوقائع لا تخلو هي أيضا من توجهات إيديولوجية متخفية تتصل أساسا بالدفاع عن شرعية سلطة الخلافة الأموية بالأندلس، يقتضي منطق الأمانة والموضوعية العلمية، الكشف عنها.
ماذا يمكن أن نقول بخصوص "هوية الأندلسيّ" طوال تاريخه الإسلاميّ؟ هل يستقيم أن نعتبره بربريا كما شددت على ذلك الفرضيات البحثية التي صاغها بكل عناية المؤرخ الفرنسي "بير غشار Pierre Guichard" 1؟ ألا تثير فينا هويته العربية المعلنة بإسراف والمعروضة بإطناب ضمن دفات كتب الأخبار والحوليات رغبة لا تقاوم في التأكد من صحة ما تدعيه ؟
يذكّر "غابريال مارتينيز غرو Gabriel Martinez-Gros " في هذا الصدد بأن تحقيق الروايات التاريخية وتنويع مصادرها بغرض المكافحة، لا يعفي المؤرخ من التساؤل. فالسؤال هو الذي يسمح للباحث بالابتعاد قصدا عن السياقات التي تعمل الروايات المنقولة على إقناعنا بوجاهتها. كما أن سؤاله هو الذي يتكفل بإعادة تنظيم الخبر وفقا لخطاطة جديدة لم يكن لها أي حضور في أذهان من عاصروا المرحلة التاريخية التي شملتها أبحاثه. فمهمة المؤرخ هي إعادة ترتيب الخطاب المعروض عليه وضرب توازناته وتكثيف الأسئلة المعاكسة كليا للسياق الذي اقترحه الروايات عليه. هذه المسافة التي يحتفظ بها المؤرخ إزاء مضمون الرواية، وكذا القدرة على محاورة تلك الرواية وفق أسئلة تجانب قصدا سياقها، هما ما يضمن ما يُسمى بحثا بـ "المسافة النقدية"، تلك التي تُكسب تماريننا سمة المعرفة العلمية وتُعطي معنى نسبيا لوجودنا أيضا.
تتصل جذور الكتابة التاريخية حول الأندلس بعمل المخبرين والرّواة على إكساب مرحلة الحكم الأموي بالأندلس المتمسك بقيم العروبة الصرفة الحد المطلوب من الشرعية إزاء منافسيه على الخلافة من الفاطميين الذين لم يكن لهم أن يصلوا إلى السلطة لولا دعم البربر، أو العباسيين الذين آزرهم الموالي من الفرس في شق عصا الطاعة والخروج عن الشرعية الأموية بالمشرق.
غير أنّ هذا التصور لشرعية سلطة الأمويين بقرطبة والتشديد على نقاء عروبتهم بالقياس إلى جميع منافسيهم، غالبا ما يصطدم بحاجزين كبيرين: هما تفسير الهزيمة التي منيت بها الخلافة الأموية بالمشرق سنة 132 / 750 م، وانكفاء ممثلي تلك الخلافة بمجال المغرب بعد حصول ذلك الحدث الفارق. تلك هي عناصر الإشكالية التي حاول كتّاب أخبار ملوك بني أمية بالأندلس، بكل ما توفرت عليه خطبهم من إستراتيجيات الحسم بشأنها.
يحاول خطاب "المبايضة الأموية" بخصوص حضور بني أمية بالأندلس، الجمع بين ثنائيات عدّة، على غرار "الهجرة والعقاب"، و"الإسلام والعروبة". ويكشف المضمون المتواري بين فقرات كتاب ابن حزم "طوق الحمامة" بطريقته الخاصة على عدم غرابة مسألة الهوية التاريخية الأموية عن الفكر الأندلسي. فمؤلف "الطوق" هو عبارة عن إخراج روائيّ يشدد سياقه على فهم خاص "للهوية الأندلسية"، فضمن الحديث الختمي لهذا الأثر، يأخذنا ابن حزم إلى ساحة خارجية تسمح أضواؤها المنصوبة على منصة عالية بمعاينة حضور الأمير الأمويّ، يرافقنا في تلك المعاينة وزير ذلك الأمير ابن غانم الذي يشغل دور المشاهد والموضب للمشهد في آن، رغبة في تضعيف تأثير ذلك المشهد على متابعيه أو متلقيه.
ولئن لم يكن من الصعب على الأمير الموجود فوق تلك المنصة التفطن لحضورنا، فإن عدم معرفته موضعيا بملامحنا لا تمنعه قطعا من التعرف على سمات وزيره الجالس حذونا.
تتطلب ترجمة هذا المشهد التصويري إلى معطيات واقعية، وفقا لفرضيات "مارتينيز"، التشديد على أن مؤلفي كتب أخبار ملوك بني أمية بالأندلس وإن لم يكن في منظورهم القبلي أننا كباحثين سنتفحص بكامل التركيز مختلف الحجج التي استجلبوها في تأكيد روايتهم بعد ألف سنة، فإنهم كانوا على وعي تام بأن من نافسوهم في وضع أخبار الملوك الفاطميين والعباسيين لن يضيّعوا فرصة مساءلتهم حول موضوع شرعية ادعاء الخلافة بل وتسفيه منطق حججهم أو براهينهم حول تلك المسألة تحديدا.
إن امتداد وحِدّة الجدل القائم بين الباحثين منذ موفى القرن التاسع عشر حول مسألة هوية الأندلسيين، يبرهنان على أن هناك نية مضمرة لحجب الحقيقة عن أعيننا. غير أن العودة المجددة إلى نفس الموضوع تبين أن مضمون المصادر يشجع واقعا على إعادة طرح نفس السؤال، علما أن ذلك المضمون يقدم للباحثين في تاريخ الأندلس جميع المعطيات التي تساعدهم على اقتراح إجابة تتسم بأكبر قدر من الدقة. وهي معطيات تبرهن، في جانب كبير منها على الأقل، على حقيقة الأصول العربية للأندلسيين، في حين أن شقها الأخر، الذي قام أولئك المخبرون أو الدعاة بدسه بمكر في شكل تنازلات ظاهرية لمساجليهم ضمن ما نقلوه من روايات، يطرح الموضوع من زوايا معاكسة لتك الحقيقة تماما. فقد تم تحويل جميع تلك المعطيات أو البراهين المفصّلة بعناية بليغة ضمن تلك المؤلفات كي تشغل الوظيفة المحددة لها ضمن هذا العرض الروائي أو تلك الخرافة المحبوكة وذلك على امتداد قرن كامل من تحبير الروايات حول تاريخ الأندلس بدءا بكتاب "النشر" وصولا إلى "الطوق حمامة" ابن حزم.
ولئن بدا من غير المنطقي أن نأمل الخروج من قراءة مجمل تلك النصوص بحقائق مختلفة عن تلك التي حوتها دفاتها، فإن هذا الحكم لا يمكن أن يصدُق عن رغبة الباحث في رصد التحويرات الشكلية الطارئة على صياغة الواقعة المروية، وهي تحويرات انطوت على عديد المؤشرات أو التلميحات الدالة على شاكلة الرفض القاطع واللبس وعدم الاتفاق بخصوص مدلول أو مقصد ما، وكذا الإصرار المغالي على إثبات الوفاء لطرف فاعل دون غيره، والتوقف عند الزاوية التي ناقش من خلالها جميع من رصدوا تلك التحويرات الشكلية الطارئة على الروايات واستشفوا مقاصدها.
وإذ يوضح المؤلف مختلف تصوراته بخصوص "الهوية الأندلسية" مُعترضا على نتائج بحث غيره من المختصين ممن أسرفوا - بزعمه طبعا - في التعويل على نماذج المقاربات البنيوية متوسلين بنتائج البحث الديمغرافي التاريخي على غرار دراسة "بيار غيشار" الداعمة لفرضية "الهوية الأندلسية البربرية"، فإنه قد اختزل اعتراضه على تلك التوجهات في ما نعته ضمن خاتمة عمله بفهرس للأفكار أو للكلمات المفاتيح التي اخترقت معظم التحاليل المقترحة ضمن مختلف فصول مؤلفه:
- خلافة التبس في تشكيل ذاكرتها الذنب بالشرعية، اتخذت من مجال خارج منبتها الأصلي موضعا أليفا. خلافة مُختطفة أخفت جريرتها على أرض اغتصبها القوط المعاقبون من قبل الفاتحين العرب، أولئك الذين انتبذوا فسيحا من تلك الأرض فاتخذوا منه موطنا أحاطت به أدغال وعرة وخطيرة قُدّر عليهم اختراقها تكفيرا عن خطيئة التفريط في ملكهم الذي اختطفه منهم موالي العباسيين محتفلين بانتصارهم في عقر دار بني أموية مشرقا.
- خلفاء تأكدت شرعيتهم وفقا لمنظور "ابن حيان"، بإزاحة شبح النـزاعات "الجاهلية" التي اشتعلت نيـرانها مجددا على أرض أسبانيا وتحطيم غلواء المتبجحين بالشرعية من موالي سلالة بني العباس الذين أقصوهم عن حكمهم مشرقا. ملوك ورثوا "قوط" أسبانيا وخلفاء نسلوا، إذا ما جارينا منطق "ابن قتيبة"، عن أجداد أشراف كرماء من عرب المشرق. خلفاء وسّعوا، طبقا لما أكّده صاحب "الجمهرة" سند الإسلام ليمتد حضوره الفاعل من جزيرة العرب إلى جزيرة الأندلس.
- عرب قاوموا من منظور "مُغْرِبِ ابن عذاري" ببسالة خبث أرض شديدة العداء، وفدوا من مغارب بلاد الإسلام مشكّلين، على ما أورده "ابن أبي زرع" في"روض القرطاس"، أَدلِاّء للشرعيات المنفية مشرقا. عرب من الماضي الأثير، فقدوا سلطتهم دون أن يكِفّوا عن خدمة الإسلام لغة وعلما وملكا حسب "تاريخ ابن خلدون".
"الخلافة: الذنب والتوبة"، "العرب والموالي"، "النفي والشرعية"، "أرض أعداء فاتحة ذراعيها للتبنّي" "المشرق والمغرب". تتردد هذه الكلمات بلا انقطاع، تتناقلها ألسنة شخوص كتاّب الأخبار وواضعي الروايات، مشحونة بقيم متباينة خضع تشكيلها إلى مشاعر ناقلي الأخبار وأحاسيسهم. فمن عجائب التاريخ وعبث الأقدر أن يقتنص مؤلف "روض القرطاس" لابن أبي زرع، وهو مؤلف أخبار وضع في حقّ حكام بني مرين نظير سخاء المكافئة، مكانة تفوق قيمة استنتاجات ابن خلدون وتنبؤاته العبقرية بخصوص تاريخ المغرب والأندلس. فالروايات التي قام بجمعها بخصوص تأسيس مدينة فاس تثبت قدرته الفائقة على توظيف الرصيد الرمزي للشرعية الأموية في اتجاهات غير مسبوقة، مُكسبة فعل التأسيس أقدارا لم يسبقه غيره إلى تمثّلها أو استنباطها بتلك الطريقة.
نعثر في ثنايا الروايات المتصلة بفعل تأسيس مدينة فاس الإدريسية، على تلازم مربك بين سيناريو الشرعية الأموية بالأندلس ورصيفه الإدريسي – المريني بالمغرب الأقصى. شرعية مقصاة من قبل حكام بغداد تحدّرت عن "عترة النبي". "عترة" رحب بها بسخاء سكان بلاد المغرب، أولئك الذي احتلوا موقع ناظر موقع سكان المجال الإسباني في الروايات الخاصة بتأسيس بلاد الأندلس، شريطة أن تقوم تلك "العترة" وداخل مجال التبني بالتكفير عن جريرة الإسراف في منح ثقتها لمشرق متآمر.
ولئن تم التعويل مغربا على سند عربي، فإن ذلك قد قُصد منه مدّ جذور الشرعية الإدريسية الشريفة عميقا في أرض بربرية، باستئلاف الموالي من المغاربة الذين ضارعت أمانتهم تلك التي أظهرها الأنصار لمن هاجر بمعية النبي إلى المدينة.
هكذا لم تجد "سيرة" الشرفاء بالمغرب كبير عناء في تقمص ذات الأدوار التي عادت لملوك بني أمّية في الأندلس. فلئن كان مصطلحا "الشرعية المنفية" و"عرب المغرب" يوجزان التعبير عمّا نعته "مارتينيز" بـ"الإيديولوجية الأموية" وبـ"الهوية الأندلسية"، ولئن كان أسباط النبي المغاربة ليسوا بأقل عروبة من خلفاء قرطبة، فإنه يتعين الإقرار من وجهة نظر "مارتينيز" دائما أن أولئك الأحفاد أو الأسباط أوضح شرعية من ملوك بني أمية بالأندلس والصق منهم انتسابا بمجال المغرب، لذلك لم يترك محبّرو أخبارهم فرصة التقاط خطاب التأسيس الأموي بالأندلس تمر دون الاستفادة منه في ترسيخ شرعيتهم بعد إكساب ذلك الخطاب توجّها روائيا يتفق بالكامل مع مقاصدهم. فهل يستقيم أن نزعم، والحال على ما بيّنا بأن مياه نهر الأندلس الممتدة قد استوعبتها مجاري مياه الشرف المغربي وامتزجت بها بالكامل؟
تبدو هذه الفرضية، التي تعيد صياغة ما سبق أن وسمته قراءة "ألكنتود Alcantud" الأنثروبولوجية بـ "الاتنولوجيا الروائية ethnofiction" من وجهة نظر الرواية التاريخية، مغرية ومثيرة لذلك فهي حريّة بالاختبار والتفحص. كما تتجلى من خلال ما رصدناه من مقاربات بخصوص نموذج "الهوية الأندلسية" طرافة التوجهات البحثية المتصلة بتعقل مدلول الهوية حاضرا، وفتحها لسبل مجددة -حتى وإن لم تتفاد مثل غيرها السقوط في عناقيد متشابكة من المحاذير- في تناول تاريخ الأندلس من خلال ربطه بتوجهات البحث الميداني الأنتروبولوجي ونماذج المقاربة التحليلية النفسية وتاريخ التمثّلات المتعامل مع النص التاريخي كخطاب يتضمن بالضرورة مجموعة من الاستراتيجيات يتعين على المؤرخ تفكيكها بدقة وعناية، قصد التكشّف على مدلولها الخفي. فالجدران القاتمة للهويات النقية تترصد جميعنا على هذه الضفة كما على تلك من بحيرتنا المتوسطية، لذلك فإن مضمون العلاقة التي نريد أن نجتهد بصدق في بنائها مع الأخر، بجميع مستويات حضور غيرته الحيوانية والنباتية والمحيطية والثقافية والبشرية أو الإنسانية، هي التي ستجسم واقعيا علوا مبادئنا وكرم سجايانا وحاجتنا المستديمة إلى إثراء ذواتنا. في حين أن فتح آذاننا لحملات التخويف أو للدعاوى المحمومة إلى الانغلاق والتمترس خلف الجدران السميكة لا يمكن أن يخدم ضمنيا سوى القبول طوعا بمنطق الأسوأ والتعوّد على ما لا نطيق والخنوع المخزي لمنطق التوائم مع البشاعة مستأصلين بذلك تشوّفنا الإنساني إلى علياء الفضيلة ومطلق الجمال.
هامش:
1- Guichard (Pierre), Al-Andalus 711 – 1492 : Les structures sociales dans l’Espagne musulmane. Martinez – Gros (Gabriel), L’identité andalouse, éd. Sindbad, Paris 1998.Fanjul (S), Al-Andalus contra Espana la forja del mito (Al-Andalus contre l’Espagne la force du mythe
المصدر:الأوان
0 commentaires :
Post a Comment