د. محسن الرملي
تتميز نظرة الذهنية العربية وطبيعة فهمها وتعاملها مع إسبانيا بخصوصية مختلفة عن تلك التي ترى بها بلدان الغرب الأخرى، وإن كان أمر كهذا يمكن عده بديهياً، إلا أنه، في حقيقته، ينطوي على مفارقاته ومخاطره وإشكالياته الخاصة التي تنحو في جوانب منها لتشكل عائقاً أمام الرؤية الصحيحة وبالتالي خسران ما تدره من إيجابيات صيغ التعامل الواقعي والموضوعي المعاصر.
يأتي العربي إلى إسبانيا، رحالة أو زائرا أو سائحا أو موفدا رسميا أو حتى مجرد عابر إلى أرض أخرى، وهو يحمل معه نظرته المسبقة والجاهزة عنها والتي يمكن إيجازها بـ (الأندلس) بكل ما تعنيه هذه التسمية من دلالات (مثالية) في الذهنية العربية سواء أكانت تاريخية، أم سياسية، أم ثقافية، أم فنية أم دينية.. تجتمع كلها في بوتقة اصطلاح (الفردوس المفقود).. لذا فإنه لن يتعامل مع إسبانيا كما سيتعامل مع فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو السويد أو ألمانيا وغيرها. فعندما يطوف في سائر هذه البلدان مشرعاً أبواب ذهنه للاكتشاف والتعلم والملاحظة والتساؤل، نجده في إسبانيا يكتفي بممارسة التذكر والبكاء على الأطلال وإصراره المتواصل على محاولته في فرض رؤيته التي حملها معه على كل ما يراه. أي أنه (يرى ما يريد) ولا يرى الواقع على حقيقته. ويعمد إلى تفسير كل ما يراه بأنه من أصل عربي أو أنه من تأثيرات العرب بما في ذلك لون العيون وطريقة المشي وأطباق الطعام وطبيعة الملبس ونوع الموسيقى وطرق الحديث.. وكل شيء.
يأتي وهو يتوقع أن يستقبله الإسبان بالأحضان والبكاء كأنه أحد أفراد العائلة عائداً بعد غيبة، لذا رأيت مواقف محرجة لأصدقاء كانوا يصرون على تقديمهم لأنفسهم على أنهم عرب مسلمون، حتى إلى عمال المقاهي، متوقعين أن يتم التعامل معهم بخصوصية واحتفاء، وهم يجهلون طبيعة التصور الشعبي التاريخي والحاضر عن العربي والذي تبلورت مراحل تشكله المعقدة إلى الوصول بتسمية العربي أو الاسلامي بـ (مورو التي تحمل في دلالاتها الاستخفاف والرفض والاستهجان والوضاعة.
يأتي العربي وهو يتوقع أنه سيتحدث اللغة الإسبانية في يومين على اعتبار أن آلاف الكلمات الإسبانية هي من أصل عربي دون أن يدرك بأن الفرق بين العجلة الأولى التي اخترعها الإنسان وبين السيارات الحديثة التي تطورت عنها، أمر لم يعد يصلح للمقارنة والاستخدام.
يأتي العربي وهو يحمل معه إشكاليات هويته المعاصرة التي نعرفها، والتي يصف الناقد الأردني فخري صالح أحد وجوهها الأساسية بالقول: نحن أمة تعيش في الماضي، بمعنى أننا نظن أن ما صنعه أجدادنا يكفينا شر القتال ويعفينا من المشاركة في صناعة التاريخ المعاصر، ويمكننا النوم على وسائد من ريش النعام مطمئنين هانئي البال. والدلالة على ذلك أنك حيثما ذهبت تجد أن المتعلم ومتوسط التعليم، والجاهل كذلك، يعتقدون أن العرب سباقون إلى كل شيء في العلم والمعرفة.. هذه القناعة الغريبة، التي تجدها في كل ركن من أركان العالم العربي وفي كل بيت من بيوته، متمكنة من أذهان العامة والخاصة. والنتيجة أن الإنسان العربي، بناء على ذلك، يعفي نفسه من محاولة الوصول إلى مصادر المعرفة الإنسانية المعاصرة.. المشكلة أن هذا الوهم، وإقناع الذات بأننا أصل الحضارات، يترسخ في العقل الشعبي الجمعي، ويشيع معرفة سطحية شديدة الضحالة، ويخلق رضى زائفاً عن الذات فإذا لم نكن قادرين على إضافة شيء إلى الحضارة المعاصرة، فقد فعل أجدادنا ذلك، وما لدى الغرب من تقدم وتطور في المعارف والعلوم كان هناك ما هو أكثر منه لدى أجدادنا!.. وإذا كان الغرب ينكر ذلك ويتجاهله فذلك يعود إلى نكرانه للجميل واستكباره في الأرض.. إنه خطاب جاهل نسمعه كل يوم على الموائد وفي المناسبات الاجتماعية، وإذا كشفت للمتناقشين زيفه حملوا عليك حملة شعواء واتهموك بالسير في ركب الغرب، هذا إذا لم يتهموك بالخيانة! (1).
وفق هذه الذهنية ينظر الزائر العربي إلى إسبانيا ويتعامل معها من دون سائر بلدان الدنيا، بل إنني لأشك في أنه يمارسها حتى في زيارته إلى بلد عربي آخر، إنه يأتي ليؤكد تصوره المسبق عنها ولهذا فهو يؤول كل ما يراه عنوة لينسجم مع هذه الرؤية، كل شيء يراه يصر على تفسيره بكونه من أصل عربي أو من تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية، أي كمن يضع أهداف البحث قبل الشروع به فيكون عمله هو مجرد مراكمة وانتقاء لشواهد تصب في تأكيد نتائجه التي وضعها، لذا حين يعود العربي من رحلته إلى إسبانيا يضيف نفسه إلى القائمة كشاهد آخر على صحة التصور المسبق مكرراً التغني المعروف عن (الأندلس) ومواصلاً البكاء على (الفردوس المفقود).. إنه يصر على عكس وممارسة إشكاليات هويته الخاصة على الهوية الإسبانية، بحيث يبدو منكراً أنها (إسبانيا) في الحقيقة قد حسمت (حالياً) أمر هويتها عبر تبني الصبغة الأوربية، وذلك بعد مراجعات ونقاشات فكرية وثقافية جادة وطويلة ابتدأت في نهايات القرن التاسع عشر على أيدي جيل الـ 98، وبمقالات آنخيل غانيبيت (1865 ـ 1898) وتحليلاته الأولية للشخصية الإسبانية وتأشيره لما هو فيها من أثر عربي وما هو غيره، ثم تواصل النقاش لسنوات طويلة كما هو معروف، كنموذج الجدل الذي دار بين المفكرين أمريكو كاسترو وكلاوديو سانتشث آالباورنوث، والممتدة آثاره حتى اليوم عبر طروحات خوان غويتيسولو المقيم في مراكش.
هنا تجدر الإشارة إلى المفارقة الغريبة حقاً والتي تستحق إنعام النظر، وهي أننا إذا كنا نرى بأن الثقافة الإسبانية أقرب الثقافات الغربية إلى ثقافتنا وأن هناك تاريخا وعوامل أخرى مشتركة جغرافية وسياسية وثقافية واجتماعية، فلماذا لم نأخذ طوال القرن الفائت شيئاً من هذه الثقافة؟ بينما نكتفي بالنهل من ثقافات أخرى كالفرنسية والإنجليزية بشكل خاص؟.. لماذا لم نقم بأي مشروع ثقافي جاد يشكل جسراً حقيقياً بين الثقافتين ويديم تلاقحهما.. أضرب مثلاً بسيطاً على ذلك بوجود معهد العالم العربي في باريس وخلو إسبانيا من مشروع مماثل.. وقد انتبه طه حسين إلى هذا الأمر أيام توليه وزارة المعارف فأسس المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد والذي تحول بمرور الوقت إلى مجرد دائرة رسمية أخرى تقليدية تابعة للسفارة.
لماذا لم يتم التعامل السياسي الجاد مع إسبانيا كونها أكثر من يصلح جسراً حقيقياً للربط بين الغرب والشرق أو بين الشمال والجنوب أو بين بلدان أمريكا اللاتينية والبلدان العربية بحكم المشترك معها تاريخياً وثقافياً وجغرافياً.. علماً بأنها قد كانت آخر الدول الأوربية اعترافاً بإسرائيل ومطاولة وقوفها إلى جانب القضايا العربية.. إلا أن العرب لم يعملوا على ما يعزز ويقوي مواقفها فوجدت مصلحتها في أن تدير وجهها عنهم وتصوبه إلى الشمال.
هذا السؤال وغيره من الأسئلة تستحق منا المراجعة على أكثر من وجه، ولكننا، هنا، بصدد الحديث عن إشكاليات النظرة المسبقة للعربي الزائر لإسبانيا، وتقصيها ـ تحديداً ـ فيما دونه الرحالة العرب عنها في مدوناتهم.
فعدا ما ترسخه في أذهاننا المناهج الدراسية والخطاب الديني الحالم عن الأندلس وآدابها وفنونها وحضارتها بتقديسية مطلقة، هناك دور آخر ظل يعزز هذا الأمر.. ألا وهو ما كتبه الرحالة العرب عن إسبانيا على مدى القرن الماضي ومواصلة تكراره على نسق واحد ووفق رؤية ثابتة من قبل الدارسين لهذه الرحلات وكذلك من قبل المثقفين المعاصرين الذين زاروا إسبانيا، وهنا سأحاول إعطاء صورة عن هذا الأمر.
دور الرحالة العرب في تعزيز النظرة المسبقة
مما يلفت النظر ـ كما سنرى ـ أن جل الرحلات العربية المكتوبة عن إسبانيا تصر على عنونة نفسها بوضع اسم (الأندلس)، وهذا أمر بحد ذاته يؤكد الإصرار على منهج ترسيخ النظرة المسبقة وتمثلها، كما أنه يحول، حقيقة، بين الشهادة الموضوعية والواقعية عن إسبانيا بكليتها، فالأندلس في نهاية الأمر لا تمثل ـ واقعاً ـ إلا إقليماً واحداً من بين أقاليم عديدة متنوعة تشكل بمجموعها إسبانيا. فلو كان الأمر يتعلق فعلاً وتحديداً بزيارة الجنوب الإسباني (الأندلس) لكان مبرراً، لكن كونه غير ذلك في واقعه، يشكل إرباكاً على صعيد الثقة بموضوعيته، لأنه سيوحي مباشرة بتبنيه للنظرة المسبقة التي وصفناها، حيث يصر الرحالة العربي على تبني التسمية العربية التاريخية، الشمولية القديمة (الأندلس) على شبه الجزيرة الإيبيرية ليطلقها على كل إسبانيا (ومعها البرتغال أحياناً) حتى لو كان الواقع الذي يعاصره مختلفاً عن ذلك.. بل وبتأكيد القصدية في نوع الرحلة. ونضرب مثالاً على ذلك رحلة شكيب أرسلان المعنونة (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) والتي هي في حقيقتها محاولة لإعادة كتابة تاريخ الأندلس وجمعه أكثر من كونها توثيقاً لرحلة شخصية ولهذا فقد جاءت محتشدة بالاقتباسات التاريخية والتراجم أكثر من تضمينها لمشاهداته الخاصة، فهو يعرب عن نيته المسبقة في كتابه (غزوات العرب) بالقول: >ولكن الأندلس التي نحن إليها منذ نعومة الأظفار، ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها، ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار. وعليه انتهزنا هذه الفرصة واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسا التي حصلنا على رخصة المرور بها أياماً معدودات. وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتفاء آثار العرب كيف حلوا وأنى ارتحلوا من هذه الديار الغربية (2). يبدأ رحلته من الشمال مروراً بالباييس باسكو الذي يسميه (الباشكنس) وهو الإقليم الذي لم يترك فيه العرب أثراً مهماً يذكر، ومع ذلك يسمي رحلته كلها بـ (الأندلسية) ولأن القصدية المسبقة واضحة، فهو يأسف على هذا الأمر ويتمنى لو أنه يبدأ الرحلة من دمشق ثم المغرب ودخولاً إلى إسبانيا من جنوبها، أي القيام بتمثل الزحف العربي إلى الأندلس كما قد حدث تاريخياً فيقول: ( هكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حراً أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية، فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم هذه الديار وهي طريق المغرب. ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة وأن نقصد الأندلس من شمالها لا من جنوبها) (3).
وقبل الدخول بقراءة هذه التفاصيل نرى بأنه من المهم إعطاء صورة مجملة عن أهم الرحلات العربية ـ المدونة ـ إلى إسبانيا منذ القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن العشرين... وعليه تجدر الإشادة بدور المستعربة الإسبانية د.نييبس براديلا التي كانت أطروحتها للدكتوراه عن هذا الموضوع(4) والتي سنستعين بها، هنا، ونؤشر بعض النتائج التي توصلت إليها وتتفق مع ما نعتقده منها، تاركين نقد ما نختلف به معها إلى مناسبة أخرى. كذلك سنستعين بمقال للدكتور وليد صالح الخليفة رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة مدريد / أوتونوما(5). وسوف نتبع التقسيم الزمني الذي لجآ إليه:
الأولى: رحلات القرنين السابع والثامن عشر المتمثلة بالرحالة المغاربة الذين قدموا كسفراء كالموصلي وأفندي، وأبرزهم احمد الغزال (ت1777) الذي أرسله السلطان المغربي سيدي محمد بن عبدالله سنة1766 سفيراً له في البلاط الإسباني لمناقشة شؤون سياسية وخاصة ما يتعلق بمسالة تنظيم تبادل الأسرى، وهؤلاء طالت رحلتهم أكثر من سواهم، ممن جاء بعدهم، ويلاحظ بأنهم قد كانوا كبارا بالسن إذ ربوا على الستين.
ومما كتبه الغزال واصفاً زيارته لمسجد قرطبة: (.. وقد تخيل الفكر أن حيطان المسجد وسواريه تسلم علينا، وتهش إلينا، من شدة ما وجدنا من الأسف، حتى صرنا نخاطب الجمادات، ونعانق كل سارية، ونقبل سواري المسجد وجدرانه)(6).
الثانية: بدأت في أواخر القرن التاسع عشر (وهنا تلاحظ د.نييبس غياباً ملحوظاً للرحلات العربية إلى إسبانيا على مدى قرن كامل تقريباً) في هذه المرحلة أو الوجبة الثانية من الرحالة راحت تتنوع الجنسيات العربية ولم تعد قادمة من المغرب فقط، كما هو الحال في الأولى، كما أنها لم تعد مقتصرة على المبعوثين بمهام دبلوماسية. وجلهم من المواليد الواقعة بين العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر أمثال: محمد روحي الخالدي (1864 ـ 1913) الذي دون رحلته بكتابه (رحلة إلى الأندلس). وأحمد الكردودي الذي زار إسبانيا سنة 1885، والتونسي علي بن السالم الورداني الذي جاء إلى إسبانيا بصفته باحثاً ودارساً سنة 1887 ودون رحلته في كتابه (الرحلة الأندلسية) مؤكداً فيها على تشابه أزياء الإسبان بالزي العربي وكثرة الكلمات ذات الأصل العربي. وأن عاداتهم تشبه عادات العرب. ثم الأديب والمترجم المصري أحمد زكي (1866 ـ 1934) الذي جاء أصلاً لحضور مؤتمر الاستشراق في لندن، واستغل سفرته بزيارة إسبانيا والبرتغال أواخر سنة 1892 وبدايات سنة 1893 ودامت رحلته ثلاثة أشهر. ضمن شواهد رحلته في كتابه (السفر إلى المؤتمر) حيث خصص الجزء الأخير منه لإسبانيا والبرتغال تحت عنوان (رحلة إلى الأندلس) وهو الآخر قد رأى في الإسبان ورثة للأندلسيين العرب وشبه طباعهم وعادتهم بالطباع والعادات العربية.
الثالثة: رحلات النصف الأول من القرن العشرين، والتي يمكن إجمال مواصفات عامة مشتركة للقائمين بها: رجل، شاب، متوسط العمر 32 سنة، شرقي، مسلم سني، لهم ممارسة متميزة سياسياً أو ثقافياً أو في كليهما، وطنيون أو قوميون عرب من حيث أيديولوجيتهم، عروبيون بصفة عامة، وغالباً ما تكون أيديولوجيتهم ذات صبغة دينية واضحة، إقامتهم، بشكل عام، كانت قصيرة، أطولها إقامة نجاتي صدقي ـ وهو استثناء في مواصفات كثيرة كما سنرى ـ التي بلغت خمسة أشهر. أما أقصرها فكانت رحلات محمد فريد وموسى كريم التي لم تصل إلى خمسة عشر يوماً.
في سنة 1901 قام المصري محمد فريد بسفرة إلى إسبانيا ولم يتجاوز فيما ذكره النظرة التقليدية القائمة على تمجيد الماضي العربي للأندلس وعظمة الآثار التي تركها فيها المسلمون. وعن مظاهر الحياة المعاصرة كان تقليدياً أيضاً وكعادة غيره يتم ذكر مصارعة الثيران دون إلمام بما يتعلق بها
تلاه في زيارة إسبانيا السوري محمد كرد علي (1876 ـ 1953) وذلك سنة 1922، ومن بين إشاراته التي أبرزها في كتابه (التدهور الثقافي والمعرفي) ثم ما جاء في كتابه (غابر الأندلس وحاضرها) الصادر سنة 1923، وكذلك في (المذكرات) قارن ما بين عرب الأندلس خلال حكمهم لها والإسبان المتخلفين حضارياً، وبين كيف أنهم كانوا يكرهون الاستحمام والاغتسال. أما الإسبان المعاصرون فهم، في رأيه، متهورون وقساة مع الآخرين وحتى مع أنفسهم، وأنهم يكرهون الأجانب. وإذا كان بعضهم يتميز باللطف والكرم، فذلك، في رأيه، إنما هو بفضل التأثير العربي فيهم.
وننبه هنا إلى أنه؛ إذا كان إسباني اليوم لا يحب العربي فهذا لا يعني أنه لا يحب بقية الأجانب، بل على العكس من ذلك، يصل به الإعجاب مثلاً بالأمريكي أو البريطاني أو الألماني، إلى حد يوحي بشعوره بالدونية تجاههم.
ثم جاء بعده السوري موسى كريم سنة 1927 وهو لم يختلف عن سابقيه بالنواح على الماضي العربي لكنه أشار إلى ضرورة التواصل الحاضر مع الإسبان.
أما رحلة الشاعر التونسي سعيد أبو بكر سنة 1929 فقد كتب تفاصيلها في (دليل الأندلس كأنك تراه) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1933 في تونس. وتحدث فيه عن مشاهداته ومفارقات حدثت معه، كمثل أنه كان يلبس الطربوش، فصار هذا سبباً لأكثر من حادث. ومنها قيام أحد المطربين الشعبيين بأداء أغنية عنصرية ضد العرب في مقهى جلس فيه أبو بكر لتناول قهوته.
جاء بعده بعام واحد (سنة 1930) الرسام اللبناني مصطفى فروخ (ت 1957). وبالطبع كانت الحصة الأكبر من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على لوحات الفنانين الكبار لكنه هو الآخر لم يتردد في تذكر الماضي العربي والتغني بأيام ازدهار العلوم والفنون في قرطبة خلال حكم العرب ـ المسلمين لها، وتدهور حالتها في يومنا هذا.
أما أبرز هؤلاء فهو اللبناني ـ السوري الأمير شكيب أرسلان (1871 ـ 1946) الذي قام برحلته المعروفة إلى إسبانيا سنة 1930 الممتدة بين شهري حزيران وآب قام خلالها بزيارة المغرب. نجده في أشهر كتبه (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) يقوم باستعادة التاريخ العربي الإسلامي كاملاً، يؤرخ له ويعيش فيه حد التقمص، حيث نراه في إحدى صوره الفوتوغرافية ـ وربما الوحيدة ـ في إسبانيا، جالساً على مقعد وثير وسط مسجد قرطبة وبملابس عربية قديمة فارداً ذراعية على هيئة الخلفاء والسلاطين. وأشار إلى أن كتابه هذا سيكون عشرة أجزاء. لم يصدر منه إلا ثلاثة أجزاء عن المطبعة الرحمانية في مصر 1936 ـ 1939 تضم 1379 صفحة. وكان أرسلان أكثر المتباكين على الماضي الأندلسي، وعبر لغة مفخمة ومسجوعة أحياناً، وبالتالي أكثر الرحالة ممن ساهموا في ترسيخ النظرة المسبقة التي ذكرناها.. بل إنه يصر على ربط الأندلس بدمشق في كل شيء وهذا ما سنلاحظ عواقبه على دارسيه وعلى لاحقيه كما سنرى عند نزار قباني مثلاً. فمن نماذج ما يقول :(ولا شك في أن هذا التشابه بين البلدين هو الذي حدا بعرب سورية على انتجاع الأندلس أكثر من أي بلاد سواها. لأن الإنسان يحب إذا تغرب أن يقع في أرض تشبه مسقط رأسه)(7). ومن نهجه في ترسيخ البكائية يقول: (وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانية متأملاً غائصاً في بحار العبر، هائماً في أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بعد نظر. وعلو همم، وسلامة ذوق، ورفق يد، ودقة صنعة. وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات في ما وراء البحر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين، ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون، وأن يملأوها أساساً وغراساً، كأنهم فيها أبد الآبدين. فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه أباؤه فيها، والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه، والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم...)(8).(يتبـــع)
المصدر: مجلة العربي
تتميز نظرة الذهنية العربية وطبيعة فهمها وتعاملها مع إسبانيا بخصوصية مختلفة عن تلك التي ترى بها بلدان الغرب الأخرى، وإن كان أمر كهذا يمكن عده بديهياً، إلا أنه، في حقيقته، ينطوي على مفارقاته ومخاطره وإشكالياته الخاصة التي تنحو في جوانب منها لتشكل عائقاً أمام الرؤية الصحيحة وبالتالي خسران ما تدره من إيجابيات صيغ التعامل الواقعي والموضوعي المعاصر.
يأتي العربي إلى إسبانيا، رحالة أو زائرا أو سائحا أو موفدا رسميا أو حتى مجرد عابر إلى أرض أخرى، وهو يحمل معه نظرته المسبقة والجاهزة عنها والتي يمكن إيجازها بـ (الأندلس) بكل ما تعنيه هذه التسمية من دلالات (مثالية) في الذهنية العربية سواء أكانت تاريخية، أم سياسية، أم ثقافية، أم فنية أم دينية.. تجتمع كلها في بوتقة اصطلاح (الفردوس المفقود).. لذا فإنه لن يتعامل مع إسبانيا كما سيتعامل مع فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو السويد أو ألمانيا وغيرها. فعندما يطوف في سائر هذه البلدان مشرعاً أبواب ذهنه للاكتشاف والتعلم والملاحظة والتساؤل، نجده في إسبانيا يكتفي بممارسة التذكر والبكاء على الأطلال وإصراره المتواصل على محاولته في فرض رؤيته التي حملها معه على كل ما يراه. أي أنه (يرى ما يريد) ولا يرى الواقع على حقيقته. ويعمد إلى تفسير كل ما يراه بأنه من أصل عربي أو أنه من تأثيرات العرب بما في ذلك لون العيون وطريقة المشي وأطباق الطعام وطبيعة الملبس ونوع الموسيقى وطرق الحديث.. وكل شيء.
يأتي وهو يتوقع أن يستقبله الإسبان بالأحضان والبكاء كأنه أحد أفراد العائلة عائداً بعد غيبة، لذا رأيت مواقف محرجة لأصدقاء كانوا يصرون على تقديمهم لأنفسهم على أنهم عرب مسلمون، حتى إلى عمال المقاهي، متوقعين أن يتم التعامل معهم بخصوصية واحتفاء، وهم يجهلون طبيعة التصور الشعبي التاريخي والحاضر عن العربي والذي تبلورت مراحل تشكله المعقدة إلى الوصول بتسمية العربي أو الاسلامي بـ (مورو التي تحمل في دلالاتها الاستخفاف والرفض والاستهجان والوضاعة.
يأتي العربي وهو يتوقع أنه سيتحدث اللغة الإسبانية في يومين على اعتبار أن آلاف الكلمات الإسبانية هي من أصل عربي دون أن يدرك بأن الفرق بين العجلة الأولى التي اخترعها الإنسان وبين السيارات الحديثة التي تطورت عنها، أمر لم يعد يصلح للمقارنة والاستخدام.
يأتي العربي وهو يحمل معه إشكاليات هويته المعاصرة التي نعرفها، والتي يصف الناقد الأردني فخري صالح أحد وجوهها الأساسية بالقول: نحن أمة تعيش في الماضي، بمعنى أننا نظن أن ما صنعه أجدادنا يكفينا شر القتال ويعفينا من المشاركة في صناعة التاريخ المعاصر، ويمكننا النوم على وسائد من ريش النعام مطمئنين هانئي البال. والدلالة على ذلك أنك حيثما ذهبت تجد أن المتعلم ومتوسط التعليم، والجاهل كذلك، يعتقدون أن العرب سباقون إلى كل شيء في العلم والمعرفة.. هذه القناعة الغريبة، التي تجدها في كل ركن من أركان العالم العربي وفي كل بيت من بيوته، متمكنة من أذهان العامة والخاصة. والنتيجة أن الإنسان العربي، بناء على ذلك، يعفي نفسه من محاولة الوصول إلى مصادر المعرفة الإنسانية المعاصرة.. المشكلة أن هذا الوهم، وإقناع الذات بأننا أصل الحضارات، يترسخ في العقل الشعبي الجمعي، ويشيع معرفة سطحية شديدة الضحالة، ويخلق رضى زائفاً عن الذات فإذا لم نكن قادرين على إضافة شيء إلى الحضارة المعاصرة، فقد فعل أجدادنا ذلك، وما لدى الغرب من تقدم وتطور في المعارف والعلوم كان هناك ما هو أكثر منه لدى أجدادنا!.. وإذا كان الغرب ينكر ذلك ويتجاهله فذلك يعود إلى نكرانه للجميل واستكباره في الأرض.. إنه خطاب جاهل نسمعه كل يوم على الموائد وفي المناسبات الاجتماعية، وإذا كشفت للمتناقشين زيفه حملوا عليك حملة شعواء واتهموك بالسير في ركب الغرب، هذا إذا لم يتهموك بالخيانة! (1).
وفق هذه الذهنية ينظر الزائر العربي إلى إسبانيا ويتعامل معها من دون سائر بلدان الدنيا، بل إنني لأشك في أنه يمارسها حتى في زيارته إلى بلد عربي آخر، إنه يأتي ليؤكد تصوره المسبق عنها ولهذا فهو يؤول كل ما يراه عنوة لينسجم مع هذه الرؤية، كل شيء يراه يصر على تفسيره بكونه من أصل عربي أو من تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية، أي كمن يضع أهداف البحث قبل الشروع به فيكون عمله هو مجرد مراكمة وانتقاء لشواهد تصب في تأكيد نتائجه التي وضعها، لذا حين يعود العربي من رحلته إلى إسبانيا يضيف نفسه إلى القائمة كشاهد آخر على صحة التصور المسبق مكرراً التغني المعروف عن (الأندلس) ومواصلاً البكاء على (الفردوس المفقود).. إنه يصر على عكس وممارسة إشكاليات هويته الخاصة على الهوية الإسبانية، بحيث يبدو منكراً أنها (إسبانيا) في الحقيقة قد حسمت (حالياً) أمر هويتها عبر تبني الصبغة الأوربية، وذلك بعد مراجعات ونقاشات فكرية وثقافية جادة وطويلة ابتدأت في نهايات القرن التاسع عشر على أيدي جيل الـ 98، وبمقالات آنخيل غانيبيت (1865 ـ 1898) وتحليلاته الأولية للشخصية الإسبانية وتأشيره لما هو فيها من أثر عربي وما هو غيره، ثم تواصل النقاش لسنوات طويلة كما هو معروف، كنموذج الجدل الذي دار بين المفكرين أمريكو كاسترو وكلاوديو سانتشث آالباورنوث، والممتدة آثاره حتى اليوم عبر طروحات خوان غويتيسولو المقيم في مراكش.
هنا تجدر الإشارة إلى المفارقة الغريبة حقاً والتي تستحق إنعام النظر، وهي أننا إذا كنا نرى بأن الثقافة الإسبانية أقرب الثقافات الغربية إلى ثقافتنا وأن هناك تاريخا وعوامل أخرى مشتركة جغرافية وسياسية وثقافية واجتماعية، فلماذا لم نأخذ طوال القرن الفائت شيئاً من هذه الثقافة؟ بينما نكتفي بالنهل من ثقافات أخرى كالفرنسية والإنجليزية بشكل خاص؟.. لماذا لم نقم بأي مشروع ثقافي جاد يشكل جسراً حقيقياً بين الثقافتين ويديم تلاقحهما.. أضرب مثلاً بسيطاً على ذلك بوجود معهد العالم العربي في باريس وخلو إسبانيا من مشروع مماثل.. وقد انتبه طه حسين إلى هذا الأمر أيام توليه وزارة المعارف فأسس المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد والذي تحول بمرور الوقت إلى مجرد دائرة رسمية أخرى تقليدية تابعة للسفارة.
لماذا لم يتم التعامل السياسي الجاد مع إسبانيا كونها أكثر من يصلح جسراً حقيقياً للربط بين الغرب والشرق أو بين الشمال والجنوب أو بين بلدان أمريكا اللاتينية والبلدان العربية بحكم المشترك معها تاريخياً وثقافياً وجغرافياً.. علماً بأنها قد كانت آخر الدول الأوربية اعترافاً بإسرائيل ومطاولة وقوفها إلى جانب القضايا العربية.. إلا أن العرب لم يعملوا على ما يعزز ويقوي مواقفها فوجدت مصلحتها في أن تدير وجهها عنهم وتصوبه إلى الشمال.
هذا السؤال وغيره من الأسئلة تستحق منا المراجعة على أكثر من وجه، ولكننا، هنا، بصدد الحديث عن إشكاليات النظرة المسبقة للعربي الزائر لإسبانيا، وتقصيها ـ تحديداً ـ فيما دونه الرحالة العرب عنها في مدوناتهم.
فعدا ما ترسخه في أذهاننا المناهج الدراسية والخطاب الديني الحالم عن الأندلس وآدابها وفنونها وحضارتها بتقديسية مطلقة، هناك دور آخر ظل يعزز هذا الأمر.. ألا وهو ما كتبه الرحالة العرب عن إسبانيا على مدى القرن الماضي ومواصلة تكراره على نسق واحد ووفق رؤية ثابتة من قبل الدارسين لهذه الرحلات وكذلك من قبل المثقفين المعاصرين الذين زاروا إسبانيا، وهنا سأحاول إعطاء صورة عن هذا الأمر.
دور الرحالة العرب في تعزيز النظرة المسبقة
مما يلفت النظر ـ كما سنرى ـ أن جل الرحلات العربية المكتوبة عن إسبانيا تصر على عنونة نفسها بوضع اسم (الأندلس)، وهذا أمر بحد ذاته يؤكد الإصرار على منهج ترسيخ النظرة المسبقة وتمثلها، كما أنه يحول، حقيقة، بين الشهادة الموضوعية والواقعية عن إسبانيا بكليتها، فالأندلس في نهاية الأمر لا تمثل ـ واقعاً ـ إلا إقليماً واحداً من بين أقاليم عديدة متنوعة تشكل بمجموعها إسبانيا. فلو كان الأمر يتعلق فعلاً وتحديداً بزيارة الجنوب الإسباني (الأندلس) لكان مبرراً، لكن كونه غير ذلك في واقعه، يشكل إرباكاً على صعيد الثقة بموضوعيته، لأنه سيوحي مباشرة بتبنيه للنظرة المسبقة التي وصفناها، حيث يصر الرحالة العربي على تبني التسمية العربية التاريخية، الشمولية القديمة (الأندلس) على شبه الجزيرة الإيبيرية ليطلقها على كل إسبانيا (ومعها البرتغال أحياناً) حتى لو كان الواقع الذي يعاصره مختلفاً عن ذلك.. بل وبتأكيد القصدية في نوع الرحلة. ونضرب مثالاً على ذلك رحلة شكيب أرسلان المعنونة (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) والتي هي في حقيقتها محاولة لإعادة كتابة تاريخ الأندلس وجمعه أكثر من كونها توثيقاً لرحلة شخصية ولهذا فقد جاءت محتشدة بالاقتباسات التاريخية والتراجم أكثر من تضمينها لمشاهداته الخاصة، فهو يعرب عن نيته المسبقة في كتابه (غزوات العرب) بالقول: >ولكن الأندلس التي نحن إليها منذ نعومة الأظفار، ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها، ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار. وعليه انتهزنا هذه الفرصة واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسا التي حصلنا على رخصة المرور بها أياماً معدودات. وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتفاء آثار العرب كيف حلوا وأنى ارتحلوا من هذه الديار الغربية (2). يبدأ رحلته من الشمال مروراً بالباييس باسكو الذي يسميه (الباشكنس) وهو الإقليم الذي لم يترك فيه العرب أثراً مهماً يذكر، ومع ذلك يسمي رحلته كلها بـ (الأندلسية) ولأن القصدية المسبقة واضحة، فهو يأسف على هذا الأمر ويتمنى لو أنه يبدأ الرحلة من دمشق ثم المغرب ودخولاً إلى إسبانيا من جنوبها، أي القيام بتمثل الزحف العربي إلى الأندلس كما قد حدث تاريخياً فيقول: ( هكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حراً أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية، فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم هذه الديار وهي طريق المغرب. ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة وأن نقصد الأندلس من شمالها لا من جنوبها) (3).
وقبل الدخول بقراءة هذه التفاصيل نرى بأنه من المهم إعطاء صورة مجملة عن أهم الرحلات العربية ـ المدونة ـ إلى إسبانيا منذ القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن العشرين... وعليه تجدر الإشادة بدور المستعربة الإسبانية د.نييبس براديلا التي كانت أطروحتها للدكتوراه عن هذا الموضوع(4) والتي سنستعين بها، هنا، ونؤشر بعض النتائج التي توصلت إليها وتتفق مع ما نعتقده منها، تاركين نقد ما نختلف به معها إلى مناسبة أخرى. كذلك سنستعين بمقال للدكتور وليد صالح الخليفة رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة مدريد / أوتونوما(5). وسوف نتبع التقسيم الزمني الذي لجآ إليه:
الأولى: رحلات القرنين السابع والثامن عشر المتمثلة بالرحالة المغاربة الذين قدموا كسفراء كالموصلي وأفندي، وأبرزهم احمد الغزال (ت1777) الذي أرسله السلطان المغربي سيدي محمد بن عبدالله سنة1766 سفيراً له في البلاط الإسباني لمناقشة شؤون سياسية وخاصة ما يتعلق بمسالة تنظيم تبادل الأسرى، وهؤلاء طالت رحلتهم أكثر من سواهم، ممن جاء بعدهم، ويلاحظ بأنهم قد كانوا كبارا بالسن إذ ربوا على الستين.
ومما كتبه الغزال واصفاً زيارته لمسجد قرطبة: (.. وقد تخيل الفكر أن حيطان المسجد وسواريه تسلم علينا، وتهش إلينا، من شدة ما وجدنا من الأسف، حتى صرنا نخاطب الجمادات، ونعانق كل سارية، ونقبل سواري المسجد وجدرانه)(6).
الثانية: بدأت في أواخر القرن التاسع عشر (وهنا تلاحظ د.نييبس غياباً ملحوظاً للرحلات العربية إلى إسبانيا على مدى قرن كامل تقريباً) في هذه المرحلة أو الوجبة الثانية من الرحالة راحت تتنوع الجنسيات العربية ولم تعد قادمة من المغرب فقط، كما هو الحال في الأولى، كما أنها لم تعد مقتصرة على المبعوثين بمهام دبلوماسية. وجلهم من المواليد الواقعة بين العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر أمثال: محمد روحي الخالدي (1864 ـ 1913) الذي دون رحلته بكتابه (رحلة إلى الأندلس). وأحمد الكردودي الذي زار إسبانيا سنة 1885، والتونسي علي بن السالم الورداني الذي جاء إلى إسبانيا بصفته باحثاً ودارساً سنة 1887 ودون رحلته في كتابه (الرحلة الأندلسية) مؤكداً فيها على تشابه أزياء الإسبان بالزي العربي وكثرة الكلمات ذات الأصل العربي. وأن عاداتهم تشبه عادات العرب. ثم الأديب والمترجم المصري أحمد زكي (1866 ـ 1934) الذي جاء أصلاً لحضور مؤتمر الاستشراق في لندن، واستغل سفرته بزيارة إسبانيا والبرتغال أواخر سنة 1892 وبدايات سنة 1893 ودامت رحلته ثلاثة أشهر. ضمن شواهد رحلته في كتابه (السفر إلى المؤتمر) حيث خصص الجزء الأخير منه لإسبانيا والبرتغال تحت عنوان (رحلة إلى الأندلس) وهو الآخر قد رأى في الإسبان ورثة للأندلسيين العرب وشبه طباعهم وعادتهم بالطباع والعادات العربية.
الثالثة: رحلات النصف الأول من القرن العشرين، والتي يمكن إجمال مواصفات عامة مشتركة للقائمين بها: رجل، شاب، متوسط العمر 32 سنة، شرقي، مسلم سني، لهم ممارسة متميزة سياسياً أو ثقافياً أو في كليهما، وطنيون أو قوميون عرب من حيث أيديولوجيتهم، عروبيون بصفة عامة، وغالباً ما تكون أيديولوجيتهم ذات صبغة دينية واضحة، إقامتهم، بشكل عام، كانت قصيرة، أطولها إقامة نجاتي صدقي ـ وهو استثناء في مواصفات كثيرة كما سنرى ـ التي بلغت خمسة أشهر. أما أقصرها فكانت رحلات محمد فريد وموسى كريم التي لم تصل إلى خمسة عشر يوماً.
في سنة 1901 قام المصري محمد فريد بسفرة إلى إسبانيا ولم يتجاوز فيما ذكره النظرة التقليدية القائمة على تمجيد الماضي العربي للأندلس وعظمة الآثار التي تركها فيها المسلمون. وعن مظاهر الحياة المعاصرة كان تقليدياً أيضاً وكعادة غيره يتم ذكر مصارعة الثيران دون إلمام بما يتعلق بها
تلاه في زيارة إسبانيا السوري محمد كرد علي (1876 ـ 1953) وذلك سنة 1922، ومن بين إشاراته التي أبرزها في كتابه (التدهور الثقافي والمعرفي) ثم ما جاء في كتابه (غابر الأندلس وحاضرها) الصادر سنة 1923، وكذلك في (المذكرات) قارن ما بين عرب الأندلس خلال حكمهم لها والإسبان المتخلفين حضارياً، وبين كيف أنهم كانوا يكرهون الاستحمام والاغتسال. أما الإسبان المعاصرون فهم، في رأيه، متهورون وقساة مع الآخرين وحتى مع أنفسهم، وأنهم يكرهون الأجانب. وإذا كان بعضهم يتميز باللطف والكرم، فذلك، في رأيه، إنما هو بفضل التأثير العربي فيهم.
وننبه هنا إلى أنه؛ إذا كان إسباني اليوم لا يحب العربي فهذا لا يعني أنه لا يحب بقية الأجانب، بل على العكس من ذلك، يصل به الإعجاب مثلاً بالأمريكي أو البريطاني أو الألماني، إلى حد يوحي بشعوره بالدونية تجاههم.
ثم جاء بعده السوري موسى كريم سنة 1927 وهو لم يختلف عن سابقيه بالنواح على الماضي العربي لكنه أشار إلى ضرورة التواصل الحاضر مع الإسبان.
أما رحلة الشاعر التونسي سعيد أبو بكر سنة 1929 فقد كتب تفاصيلها في (دليل الأندلس كأنك تراه) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1933 في تونس. وتحدث فيه عن مشاهداته ومفارقات حدثت معه، كمثل أنه كان يلبس الطربوش، فصار هذا سبباً لأكثر من حادث. ومنها قيام أحد المطربين الشعبيين بأداء أغنية عنصرية ضد العرب في مقهى جلس فيه أبو بكر لتناول قهوته.
جاء بعده بعام واحد (سنة 1930) الرسام اللبناني مصطفى فروخ (ت 1957). وبالطبع كانت الحصة الأكبر من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على لوحات الفنانين الكبار لكنه هو الآخر لم يتردد في تذكر الماضي العربي والتغني بأيام ازدهار العلوم والفنون في قرطبة خلال حكم العرب ـ المسلمين لها، وتدهور حالتها في يومنا هذا.
أما أبرز هؤلاء فهو اللبناني ـ السوري الأمير شكيب أرسلان (1871 ـ 1946) الذي قام برحلته المعروفة إلى إسبانيا سنة 1930 الممتدة بين شهري حزيران وآب قام خلالها بزيارة المغرب. نجده في أشهر كتبه (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) يقوم باستعادة التاريخ العربي الإسلامي كاملاً، يؤرخ له ويعيش فيه حد التقمص، حيث نراه في إحدى صوره الفوتوغرافية ـ وربما الوحيدة ـ في إسبانيا، جالساً على مقعد وثير وسط مسجد قرطبة وبملابس عربية قديمة فارداً ذراعية على هيئة الخلفاء والسلاطين. وأشار إلى أن كتابه هذا سيكون عشرة أجزاء. لم يصدر منه إلا ثلاثة أجزاء عن المطبعة الرحمانية في مصر 1936 ـ 1939 تضم 1379 صفحة. وكان أرسلان أكثر المتباكين على الماضي الأندلسي، وعبر لغة مفخمة ومسجوعة أحياناً، وبالتالي أكثر الرحالة ممن ساهموا في ترسيخ النظرة المسبقة التي ذكرناها.. بل إنه يصر على ربط الأندلس بدمشق في كل شيء وهذا ما سنلاحظ عواقبه على دارسيه وعلى لاحقيه كما سنرى عند نزار قباني مثلاً. فمن نماذج ما يقول :(ولا شك في أن هذا التشابه بين البلدين هو الذي حدا بعرب سورية على انتجاع الأندلس أكثر من أي بلاد سواها. لأن الإنسان يحب إذا تغرب أن يقع في أرض تشبه مسقط رأسه)(7). ومن نهجه في ترسيخ البكائية يقول: (وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانية متأملاً غائصاً في بحار العبر، هائماً في أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بعد نظر. وعلو همم، وسلامة ذوق، ورفق يد، ودقة صنعة. وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات في ما وراء البحر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين، ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون، وأن يملأوها أساساً وغراساً، كأنهم فيها أبد الآبدين. فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه أباؤه فيها، والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه، والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم...)(8).(يتبـــع)
المصدر: مجلة العربي
0 commentaires :
Post a Comment