بصيرة الداود *
عبر التاريخ رُبطت علاقة صداقة بين المسلمين وأحد الموريسيك الذي كان قد فر من إسبانيا بعد أن تظاهر باعتناقه المسيحية ويدعى «أفوقاي»، وقد تعلم أفوقاي صناعة البارود ونقل أسرارها إلى المسلمين في كتابه الشهير «العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع»، كما تحدث في كتابه هذا عن الجديد الحاصل في العالم الغربي مثل اكتشاف أميركا، وقيام البروتستانتية الإصلاحية الدينية ضد الكنيسة الكاثوليكية البابوية في روما، وانتشار الطباعة وحركة إحياء العلوم والفلسفة من جديد وغيرها من مظاهر النهضة الأوروبية آنذاك، كما عرض خدماته على ولاة وسلاطين مصر وتونس والمغرب العربي في الوقت نفسه الذي ارتبط فيه بصداقة قوية مع فقهاء المذهب المالكي، ومنهم تحديداً الأجهوي صاحب كتاب «مواهب جليل في شرح مختصر خليل»، ولكن الفقيه الأجهوي لم يشر في مؤلفه هذا أو غيره إلى ما ينبه بفهم الفقهاء آنذاك المتغيرات العالمية التي استفادوا منها من صداقاتهم للموريسيك أو غيرهم من الرحالة الأندلسيين إلى بلادهم.
فمثلاً، عندما كان أفوقاي يحاول أن يشرح للمسلمين أهمية المدافع المحمولة على السفن في مستقبل المواجهات العسكرية البحرية، فإن مؤلفات صديقه الفقيه الأجهوي لم تكن تستوعب ما يقوله، أو يثير فضوله في تلك الفترة سوى انشغاله هو وفقهاء عصره ببحث ونقاش مواضيع كانوا يرونها أكثر أهمية من نقاشات أفوقاي، بحيث امتدت عند فقهاء المالكية لأكثر من قرنين من الزمان تحمل عنوان «تحريم التدخين! وكيف تعُد المرأة المسلمة التابعة للمذهب المالكي»! منشغلين بذلك ومنصرفين عما يجري حولهم في العالم والاستعداد له بما هو أهم من ذلك – من وجهة نظرهم – والمتمثل في التفكير وإصدار الفتاوى الفقهية والشرعية «بما يجوز أو لا يجوز فقهياً طرحه من السفينة عند خشية الغرق»!
ما أعجب الاجتهادات الفقهية وما أكثرها في هذا الزمان! فعندما نجح الاسترداد المسيحي للأندلس بدأ الكثير من الفقهاء يرون في هذا التغيير العالمي علامة من علامات نهاية الزمان عوضاً عن تقديمهم وصفاً وحلولاً فقهية أكثر واقعية للأحداث، بل إنهم ازدادوا تعلقاً بمثل هذا الحدث وغيره بفكرة الإعجاز النبوي بالإخبار عن الغيبيات وقرب نهاية الزمان بظهور علامات الساعة!
ولكن، إذا كان هذا حال فقهاء المسلمين، وهو أشبه بحال المتزمتين منهم الذي يشبه حال النعامة التي تخفي رأسها في الرمال خوفاً من صائدها وتتصرف وفقاً لغرائزها، فأين هو إذن موقف الطرف الآخر المتنور عقلياً وفكرياً؟ فهل اقتصر دورهم على اقتباس مظاهر الحضارة العالمية المتحدية لهم؟ فحاولوا الاندماج فيها بشكل كلي والانسلاخ عن قيم ومبادئ الحضارة الإسلامية بزعم أنهم يتصرفون بذلك وفقاً للعقل والمنطق ولقطع صلتهم بالماضي تماماً، إلا أنهم في واقع الحال يمارسون لعبة خطرة جداً ويتبادلون خيولهم – وفقاً للمثل الإنكليزي – أثناء عبورهم المجرى بحثاً عن الفردوس المفقود! ويخاطبون الغرب الذي لا يرغب في الاعتراف بهم وبمحاولة اندماجه معهم بكلمات من إنجيلهم تعاتبهم وتدعوهم للمحبة فيصرخون قائلين «زمرنا لكم فلم ترقصوا، ونُحنا لكم فلم تلطموا»!
إن فشل الإسلاميين المتطرفين في تاريخنا الحديث والمعاصر هو أقرب ما يكون كمثال على إخفاق المماليك في مواجهة مدافع نابليون على أرض مصر بالدروع والرماح حتى أغرقوا بمصير الهلاك.
أما فشل الذين يحاولون الاندماج والتشكل بالغرب تماماً فهم أشبه بمن يحاول أن يتعلم أبجديات الفروسية ولم يتقنها فهوى وجرفه التيار إلى موت محتوم.
لست أعرف حقيقة فرعاً من فروع الفلسفة كشفت فيها الحكمة والنقاب عن نفسها وأسفرت عن وجهها كما قرأتها وتعلمتها من فلسفة التاريخ، ولم يبالغ المصلح الألماني مارتن لوثر عندما أشار إلى التاريخ واصفاً إياه بأنه «المرآة التي ترينا أنفسنا على حقيقتها وكأنما ننظر إلى مرآة تنعكس عليها أفعالنا وخلجات أنفسنا»، إلا أننا أصبحنا الآن في حاجة ماسة إلى إعادة النظر كثيراً في مرآة الزمان منذ عصور القلق والأزمات من أجل حل شفر وألغاز الحاضر المعاصر من خلال العودة إلى الوعي بتاريخنا الماضي ولكن بشرط قراءته بنظرة عميقة وشمولية، بحيث لا نُخضع أجزاءه المهمة لأدب السرديات فقط من دون استعمال مناهج البحث التاريخية كافة التي تسبب ابتعاد معظم المؤرخين وخشيتهم من استعمال جانب النقد فيها إلى اعتبار أن فترة ما قبل الإسلام غير جديرة بالنقد التاريخي لأنها فترة جاهلية، وعهد النبوة والخلافة الراشدة لا تخضع للمسألة التاريخية لأنها تاريخ مقدس، وما بعد ذلك يُعد قصصاً وسرديات لا قيمة لها ولا تمثل إلا انحرافاً عن الرسالة الإسلامية، فيا للعجب!! ماذا بقي إذن للتاريخ لكي يتناوله وفقاً للمنهج العلمي؟
إن وعينا لتاريخنا الماضي هو الذي يجب أن يحدد المبادئ والقيم التي من المفترض أن نعتنقها من جديد ومن أجل أن نزيل عن أنفسنا كابوس القلق ونقطع رأس العدمية، ونخطط لمستقبلنا ونواجه مصيرنا بما يواجهه أصحاب المبادئ والقيم والمستقبل والمصير، ونناقش تاريخنا بواقعية مطلقة بدلاً من ترديد سردية الطوفان، ومن أجل أن ينشأ جيل وسطي بيننا بدلاً من استمرارنا بالسير على خطين متوازيين لا يلتقيان أبداً، فإما سلفيون متزمتون، وإما مستقبليون لا يجد الوسطيون بينهم مكاناً، على رغم أن القرآن اصطفانا أمة وسطاً.
الواقع أن مشكلاتنا تكمن دائماً في الصراع ما بين القديم والجديد، الدين والعلم، والإسلام والأيديولوجيات الغربية الحديثة، فمتى نتعلم أن نسير على خطين متقاربين مكملين أحدهما الآخر ويلتقيان في نقطة وهدف مشترك واحد؟
تلك هي الحكمة التي آن الأوان أن يكشف النقاب عن وجهها في فلسفة التاريخ المعاصر، ومن لم يقتنع بها أو يعتبرها فكرة طوباوية مستحيلة فهو مدعو – عزيزي القارئ – لإعادة قراءة مقالي هذا من جديد.
* اكاديمية سعودية
عبر التاريخ رُبطت علاقة صداقة بين المسلمين وأحد الموريسيك الذي كان قد فر من إسبانيا بعد أن تظاهر باعتناقه المسيحية ويدعى «أفوقاي»، وقد تعلم أفوقاي صناعة البارود ونقل أسرارها إلى المسلمين في كتابه الشهير «العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع»، كما تحدث في كتابه هذا عن الجديد الحاصل في العالم الغربي مثل اكتشاف أميركا، وقيام البروتستانتية الإصلاحية الدينية ضد الكنيسة الكاثوليكية البابوية في روما، وانتشار الطباعة وحركة إحياء العلوم والفلسفة من جديد وغيرها من مظاهر النهضة الأوروبية آنذاك، كما عرض خدماته على ولاة وسلاطين مصر وتونس والمغرب العربي في الوقت نفسه الذي ارتبط فيه بصداقة قوية مع فقهاء المذهب المالكي، ومنهم تحديداً الأجهوي صاحب كتاب «مواهب جليل في شرح مختصر خليل»، ولكن الفقيه الأجهوي لم يشر في مؤلفه هذا أو غيره إلى ما ينبه بفهم الفقهاء آنذاك المتغيرات العالمية التي استفادوا منها من صداقاتهم للموريسيك أو غيرهم من الرحالة الأندلسيين إلى بلادهم.
فمثلاً، عندما كان أفوقاي يحاول أن يشرح للمسلمين أهمية المدافع المحمولة على السفن في مستقبل المواجهات العسكرية البحرية، فإن مؤلفات صديقه الفقيه الأجهوي لم تكن تستوعب ما يقوله، أو يثير فضوله في تلك الفترة سوى انشغاله هو وفقهاء عصره ببحث ونقاش مواضيع كانوا يرونها أكثر أهمية من نقاشات أفوقاي، بحيث امتدت عند فقهاء المالكية لأكثر من قرنين من الزمان تحمل عنوان «تحريم التدخين! وكيف تعُد المرأة المسلمة التابعة للمذهب المالكي»! منشغلين بذلك ومنصرفين عما يجري حولهم في العالم والاستعداد له بما هو أهم من ذلك – من وجهة نظرهم – والمتمثل في التفكير وإصدار الفتاوى الفقهية والشرعية «بما يجوز أو لا يجوز فقهياً طرحه من السفينة عند خشية الغرق»!
ما أعجب الاجتهادات الفقهية وما أكثرها في هذا الزمان! فعندما نجح الاسترداد المسيحي للأندلس بدأ الكثير من الفقهاء يرون في هذا التغيير العالمي علامة من علامات نهاية الزمان عوضاً عن تقديمهم وصفاً وحلولاً فقهية أكثر واقعية للأحداث، بل إنهم ازدادوا تعلقاً بمثل هذا الحدث وغيره بفكرة الإعجاز النبوي بالإخبار عن الغيبيات وقرب نهاية الزمان بظهور علامات الساعة!
ولكن، إذا كان هذا حال فقهاء المسلمين، وهو أشبه بحال المتزمتين منهم الذي يشبه حال النعامة التي تخفي رأسها في الرمال خوفاً من صائدها وتتصرف وفقاً لغرائزها، فأين هو إذن موقف الطرف الآخر المتنور عقلياً وفكرياً؟ فهل اقتصر دورهم على اقتباس مظاهر الحضارة العالمية المتحدية لهم؟ فحاولوا الاندماج فيها بشكل كلي والانسلاخ عن قيم ومبادئ الحضارة الإسلامية بزعم أنهم يتصرفون بذلك وفقاً للعقل والمنطق ولقطع صلتهم بالماضي تماماً، إلا أنهم في واقع الحال يمارسون لعبة خطرة جداً ويتبادلون خيولهم – وفقاً للمثل الإنكليزي – أثناء عبورهم المجرى بحثاً عن الفردوس المفقود! ويخاطبون الغرب الذي لا يرغب في الاعتراف بهم وبمحاولة اندماجه معهم بكلمات من إنجيلهم تعاتبهم وتدعوهم للمحبة فيصرخون قائلين «زمرنا لكم فلم ترقصوا، ونُحنا لكم فلم تلطموا»!
إن فشل الإسلاميين المتطرفين في تاريخنا الحديث والمعاصر هو أقرب ما يكون كمثال على إخفاق المماليك في مواجهة مدافع نابليون على أرض مصر بالدروع والرماح حتى أغرقوا بمصير الهلاك.
أما فشل الذين يحاولون الاندماج والتشكل بالغرب تماماً فهم أشبه بمن يحاول أن يتعلم أبجديات الفروسية ولم يتقنها فهوى وجرفه التيار إلى موت محتوم.
لست أعرف حقيقة فرعاً من فروع الفلسفة كشفت فيها الحكمة والنقاب عن نفسها وأسفرت عن وجهها كما قرأتها وتعلمتها من فلسفة التاريخ، ولم يبالغ المصلح الألماني مارتن لوثر عندما أشار إلى التاريخ واصفاً إياه بأنه «المرآة التي ترينا أنفسنا على حقيقتها وكأنما ننظر إلى مرآة تنعكس عليها أفعالنا وخلجات أنفسنا»، إلا أننا أصبحنا الآن في حاجة ماسة إلى إعادة النظر كثيراً في مرآة الزمان منذ عصور القلق والأزمات من أجل حل شفر وألغاز الحاضر المعاصر من خلال العودة إلى الوعي بتاريخنا الماضي ولكن بشرط قراءته بنظرة عميقة وشمولية، بحيث لا نُخضع أجزاءه المهمة لأدب السرديات فقط من دون استعمال مناهج البحث التاريخية كافة التي تسبب ابتعاد معظم المؤرخين وخشيتهم من استعمال جانب النقد فيها إلى اعتبار أن فترة ما قبل الإسلام غير جديرة بالنقد التاريخي لأنها فترة جاهلية، وعهد النبوة والخلافة الراشدة لا تخضع للمسألة التاريخية لأنها تاريخ مقدس، وما بعد ذلك يُعد قصصاً وسرديات لا قيمة لها ولا تمثل إلا انحرافاً عن الرسالة الإسلامية، فيا للعجب!! ماذا بقي إذن للتاريخ لكي يتناوله وفقاً للمنهج العلمي؟
إن وعينا لتاريخنا الماضي هو الذي يجب أن يحدد المبادئ والقيم التي من المفترض أن نعتنقها من جديد ومن أجل أن نزيل عن أنفسنا كابوس القلق ونقطع رأس العدمية، ونخطط لمستقبلنا ونواجه مصيرنا بما يواجهه أصحاب المبادئ والقيم والمستقبل والمصير، ونناقش تاريخنا بواقعية مطلقة بدلاً من ترديد سردية الطوفان، ومن أجل أن ينشأ جيل وسطي بيننا بدلاً من استمرارنا بالسير على خطين متوازيين لا يلتقيان أبداً، فإما سلفيون متزمتون، وإما مستقبليون لا يجد الوسطيون بينهم مكاناً، على رغم أن القرآن اصطفانا أمة وسطاً.
الواقع أن مشكلاتنا تكمن دائماً في الصراع ما بين القديم والجديد، الدين والعلم، والإسلام والأيديولوجيات الغربية الحديثة، فمتى نتعلم أن نسير على خطين متقاربين مكملين أحدهما الآخر ويلتقيان في نقطة وهدف مشترك واحد؟
تلك هي الحكمة التي آن الأوان أن يكشف النقاب عن وجهها في فلسفة التاريخ المعاصر، ومن لم يقتنع بها أو يعتبرها فكرة طوباوية مستحيلة فهو مدعو – عزيزي القارئ – لإعادة قراءة مقالي هذا من جديد.
* اكاديمية سعودية
المصدر: دار الحياة السعودية
0 commentaires :
Post a Comment