رحلة أندلسية طويلة، كتبها عبدالله بن الصباح الأصبحي الأندلسي (من القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي) عنوانها: (منشاب الأخبار وتذكرة الأخيار) يؤكد ابن الصباح فيها على أنه يمني الأصل من ذرية أبرهة بن الصباح الذي يرد ذكره في تاريخ مكة.
أصل الرحلة مودع بدار المكتبة الوطنية بتونس تحت رقم 2285، وهي من ثلاث وسبعين ومائتي ورقة، وتوجد لها صورة بالخزانة العامة بالرباط رقم 1874. ولم يتمكن الباحث من معرفة تاريخ بالضبط، على الرغم من تتبعه لغضون الرحلة عبر المراحل التي قطعها الرحالة، انطلاقاً من حديثه عن الأندلس، وملك بني الأحمر، ومروراً بسبتة وفاس ومراكش أيام مرين، وتلمسان أيام بني عبدالواد، وتونس أيام الحفصيين، ومصر أيام بقية المماليك.
كان ابن الصباح يقول عن غرناطة: ردّها الله دار إسلام(1). وكان يسأل الله أن يرزق الصبر للذين بقوا بالأندلس، مما يذكر بالنصيحة التي قدمها المغراوي (ت 929هـ/ 1523م)(2). إلا أن الرحالة ابن الصباح يتحدث عن شخصيات لقيها، وعن إفادات سمعها، ترجع الى ما قبل هذا التاريخ. ومن هنا كان الباحث يعتقد أن نص (الرحلة) الذي يتحدث أحياناً عن ابن الصباح بقوله (رحمه الله) مكتوب من طرف موريسكي ثان؛ ولهذا فإن الباحث يذهب الى أن (الرحلة) التي بين أيدينا عملت فيها يدان اثنتان: أولاهما يد الرحالة ابن الصباح الذي يبدو أنه قام بالرحلة في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ثم أتى بعده موريسكي آخر فنسخ الرحلة وتصرف فيها حسبما تجدد من أحداث في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
وبعد هذا فإن من الملاحظ أن أسلوب (الرحلة) كان هو الأسلوب الذي يوجد في أغلب المخطوطات الموريسكية الألخميادية(3). وأيضاً من خلال قراءة بعض المقاطع التي تتعلق بمكة يمكن ملاحظة بعض التجاوزات اللغوية والنحوية التي لا تخفى على القارئ.
و(الرحلة) ذات فائدة كبيرة سواء على الصعيد التاريخي أو الإجتماعي. ومن الأفضل الإتيان بنصها كما هو، حرصاً على تبليغ الصورة كما هي.
بعد أن يتحدث ابن الصباح عن مروره بينبع للتزود بما يحتاج اليه من هذه السوق التي يوجد فيها حتى (لبن الطير) على حد تعبيره؛ وبعد أن يتحدث عن آلاف من المشاعل الكبرى التي تضيء الليل في وجه القاصدين، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم؛ وبعد أن يصف وسائل النقل والإتصال بما فيها الهوادج التي توفر الراحة للمسافرين وكأنهم في عرس، يعيشون في بيوتهم أكلاً وشرباً ومناماً، على نحو ما جاء في (رحلة) البلوي؛ وبعد الحديث عن رابغ والإشارة الى الفرق بين حج الإفراد والتمتع والقران، والى التجرد من المخيط من الثياب وارتداء لباس الإحرام والتزام النطق بالتلبية المطلوبة.. بعد كل هذا يتحدث عن وصوله الى مكة في فصل شديد الحرارة لم يحدد تاريخه بالضبط، وكأن التاريخ لا يهم ابن الصباح! وهو يقول بعد كل هذا وبأسلوبه التلقائي البسيط:
قال المؤلف: والله لقد أحرمت بالإفراد وكشفت رأسي، ما كان إلا ثلث النهار، ورأسي قد انتفخ من شدة الحرور، وكأنه قِدْر الغرب من متاع(4) الحمام حتى غطيت رأسي وفديته!
ثم نرحلوا (كذا!) الى بطن مر على بعد من مكة بثلاث مراحل، وندخلوا (كذا) مكة، شرفها الله، فمنهم الركب الأول يدخلها أولاً ليأتي من (مهل)(5) في الجحفة، والغير الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس الى اليوم السابع يوم التروية، يوم الطلوع الى منى.
قال ابن الصباح: كل ما ذكرنا من مراحل برية الحجاز طروق (كذا) في واد بين جبال سود عالية مع السحاب حجارة بلا شجر ولا خضرة، الشجر الذي فيها بلا ورق!، ومن شدة الحر جبال مكة والحجاز مسيرة شهرين سود مثل الحريق، (تقول)(6) الدخان جرى عليها والنار، بلاد حارة الشتاء والصيف كله فيها سواء، ودليل ذلك قوله عليه السلام: (من صبر على حرّ مكة وجوع المدينة ضمنت له على الله الجنة).
وبمثل الشعور الذي هيمن على الرحالين السابقين من أمثال العبدري وابن بطوطة، وهما يجدان أنفسهما في مكة المكرمة، في المسجد الحرام أمام الكعبة، على الرغم من كل المخاطر والأهوال التي تعترض سبل القاصدين الى ذرية إبراهيم الذين تهوي اليهم أفئدة الناس، بمثل ذلك الشعور يعبر هذا الموريسكي الذي يستحضر نعمة الله عليه بتمكينه من جوار هذا البيت الشامخ المنيف الذي كان منبع الخير والفضيلة بالنسبة للطائفين والركّع السجود.
قال ابن الصباح: (والله لقد دخلت مكة، شرفها الله، ونحن نطوف بالكعبة الشريفة، وهلّ علينا الهلال(7) ونحن طائفون بالكعبة الشريفة فلله الحمد كثيراً كما هو أهله، والحمد لله الذي سلمنا من تلك المفاوز والقفار المهلكة والجبال الوحشة، كم من حاج ينتظرونه أهله وهو قد مات على عطش! وكم من سلكها ولم يبلغ حجه، وكم من أنفق ماله ولم ينله منها شيئاً (كذا) وكم من سلطان يتمنى النظر في تلك الكعبة الشريفة ولم يرها! وكم من أمير ووزير يريد المشي ولا يحمل، وكم من يريد وصلها بالمال ولا يصل لها، وكم من مذنب يريد أن يطهر ذنوبه بالوقوف على عرفه ولا يعطى، وكم من يتمنى الوصول اليها ولا يصل، وكم من واصل الى نصف الطريق ولم يبلغ، وكم من بلغ الى يوم منها ولم يبلغ! وكم من زعيم بماله ورجاله ولم يصل! وكم من غني زعيم بغناه ولم ينفعه غناه! وكم من فقير آيس يبلغ! وكم من حقير حقر لفقره وبلغ مراده! وكم من أموال اكتسبت وجمعت بالقناطير المقنطرة ولم يبلغ صاحبها الموضع الشريف! وكم من قليل بلغ بالعناية من عند الله ولم يحتج الى مال ولا الى زاد، ولا الى ركوب إلا حملته العناية، ومن قال: ذلك الموضع لا يبلغ الا بالمال والجمال والزاد والرواحل، فقد نكر (كذا) نعمة الله وعنايته! بل الحامل هو الله سبحانه!).
قال المؤلف: بلغنا مكة والكعبة المشرفة وسلمنا عليها من باب بني شيبة المبارك علينا وعلى كل من رآه، ورأينا الكعبة وبكينا ولذلك تسمى ببكة؛ لأنها تبكي من نظر إليها، ولو كان قلبه مثل الحجر يبكي بلا خلاف، فنحن، لله الحمد، وصلنا بعناية الله وجاورنا بالحلال من بقية مال والدينا إذ كان مالاً حلالاً، وصلنا الى هذا المقام، وجاورنا وبلغنا المراد من الله سبحانه وتعالى، واطّهرنا من الذنوب السالفة، خرجنا الى أبينا ودعونا كما وجب علينا... وأنه علينا نعم لا تحصى، فلله الحمد كثيراً، والشكر مادامت أرواحنا في أجسامنا، والروح والنفس تتمنى الى يوم يبعثون يوم البعث ويدخلون المؤمنون الجنة، ونتوسل بسيد الأولين والآخرين، بنبينا وشفيعنا محمد العربي القرشي الهاشمي العدناني، خير ولد إبراهيم الخليل وإسماعيل الصادق، وصاحب الوعد الجميل صلى الله عليه وسلم، مادام الداعون يدعون بالخير الى محمد وآل محمد بالصلاة والتسليم الى يوم الحشر والدين، صلاة تفوح مسكاً وتعبق عبقاً بريح طيبة الجنة والرضوان، مادامت الدقائق والساعات والأيام والجمع والشهور والسنون والأيام المباركة من الأعوام والدهور بعدد الشهور والحساب من جري الأيام، حتى يصير الناس فريق في الجنة وفريق في السعير.. صلاة متصلة برضاء الرب الكريم، والمولى العظيم، الى أن يحضروا سر حضرة القدس في الكرامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن اولئك رفيقا، آمين نحن وجميع المسلمين كافة، ويشفع بعضنا في بعض ويسلم بعضنا على بعض، في دار السلام وجنات النعيم، والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف: لما جاورت مدينة مكة المكرمة والكعبة الشريفة بيت الله الذي قامت عليه السموات والأرض على وجه الماء قبل الأرض، وبعد ذلك من تحته دحيت الأرض، ومن تحته خلق الله التربة الذي (كذا) خلق الله آدم منها، ومن تلك التربة خلق الله جميع ألوان التراب، وعلى هذه البيت الشريفة (كذا) دوران الفلك والشمس والقمر والنجوم والبروج المزينات التي تسير فيها الشمس وهي خوية؟ الأرض وعجائبها لا تنحصر، ولكن ذكرنا منها الاختصار.
وهذه صفات عرفة والمزدلفة، والمشعر الحرام، أعاد الله علينا وعلى المسلمين جميعا من بركاتهم(كذا).
وقد كان ابن الصباح يُعنى بالرسوم التي تقرب الصورة للذين لم يسعفهم الحظ بالوصول الى هذا الفضاء المليء بالكثير من المعاني والدلالات التي تظل بعيدة كل البعد عن الذين لم يدركوا الوصول الى الكعبة فظلوا شاردين تائهين.
ومن الأفضل نقل تلك الرسوم على ما هي في المخطوطة في ورقتها الثانية والعشرين بعد المائة (حرف أ وحرب باء ويلاحظ أن تنقيط الحروف يخضع للمصطلح المغربي).
والطريف في رسم الكعبة تضمينه اتجاه مختلف البلدان الى أركانها الربعة، وهو الصنيع الذي يذكر بالرسم الذي وضعه الصفاقسي في القرن نفسه (985هـ/ 1551م) والذي يصاحب رسم الكعبة وعرفات.
قال عبدالله بن الصباح:
صوّرنا هذا البلد الأمين والكعبة الشريفة وحرمها المبارك ومناسكها المشهورة الشريفة كما تراها أيها القارئ والمستمع، فوجب علينا أن نذكر وننشر مفاخر هذا الذي صورناه، ونذكر فضائل هذه الجزيرة: الكعبة الشريفة وما أخصها الله على سائر البيوت في الأرض، وأعطى قاصدها من الجزاء، ومُجاورها بالكفاءة (كذا)، وما أعطى الله لهذا الحرم من الوفادة وأهله من الكفا... ولو نصف طول عمر نوح ما نبلغ ربع ولا ثمن الثمن من معجزاته الكرام.
ويستمر في حديثه عن مكة وما جاورها الى أن يعد المواقع الستة عشرة التي نعتها بالمناسك: جبل عرفة، المزدلفة، المشعر الحرام، الجمرات، منى، الكعبة، الحجر الأسود، الركن اليماني، الملتزم، حجر اسماعيل، مقام ابراهيم، بئر زمزم، الصفا، المروة، المسعى، التنعيم.
وفي معرض حديثه عن الحجر الأسود ردد قولة عمر بن الخطاب: والله إني لأعلم أنك حجر لا ينفع ولا يضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك. قال المؤلف: شاهدت في وسطه قدر الدرهم من البياض، وهو مطوق بطوق من فضة بيضاء، طوّقه بها عبدالله بن الزبير، فهو اليوم يضيء ليلة الظلمة مثل نجمة الزهرة.
وفي معرض حديثه عن فضائل زمزم قال: (ولقد مرضت في هذا الحرم أول مجاورتي، وحلفت أن طوال ما يقضي الله لي بمجاورتي لا أشرب ماء غير ماء زمزم، فدخل يدي ونحل جسمي حتى لم يبق إلا الجلد على العظم، فحبسني ربي مألوماً ستة وأربعين يوماً حتى أشفاني الله، وطابت نفسي بالماء والهواء، وصرت نشربه غدوة وعشية وكل ساعة يخرج من البئر ساخناً كأنه اللبن.
ولما أراد ابن الصباح توديع (مكة) شربه بنيّة حفظ القرآن، قال: فحفظته... وشربته لتوقي العطش وسافرت في البراري أزماناً وماتوا وأنا لم نر بأساً.
وفي حديثه عن كسوة الكعبة قال: إنها الى بني شيبة من ذرية طلحة وعثمان الذين نزلت فيه الآية في مفاتيح الكعبة لما أخذه العباس منهم: قال تعالى: (ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً)(8).
وابن الصباح يتخذ الذراع والقدم والأصابع معياراً لتحديد المسافات، وهكذا حدد الكعبة على هذا الأساس منبّهاً الى أنه يقصد أذرع وأقدام وأصابع الرجال المتوسطين. وبهذه المناسبة يعود الى ما وقف عليه مما طرز على كساء الكعبة، والى ما يوجد على وجه الباب المبارك، والوجه الثاني والثالث، وكذا الوجه الرابع الذي يحمل اسم سلطان ذلك الزمان والعام الذي كسا فيه البيت.
ومن المؤكد أن ابن الصباح كان من المحظوظين الذين دخلوا الكعبة، حيث يقدم وصفاً لها قائلاً: قال المؤلف الأصبحي: ارتفعت الكعبة من الأرض قدر طول الرجل، نطلع سبعة دروج من ألواح تنقل وترد، وباب الكعبة الشريفة متوسطة فيما بين مطلع الشمس في الشتاء والصيف، بابها من عود اليبانوز (الأبينوس) ملبس بالنحاس الصيني، مذهّب بماء الذهب، مغلق سائر الأيام إلا يوم الجمعة المباركة، يفتحونه بنو شيبة خدام البيت الحرام، يدخلونه الرجال، يركعون فيه. وداخله مفروش بالمرمر الملون، والحيطان بأنواع البلاط وألوان المرمر، عليها من داخل البيت حلة حمراء مرصعة من الحرير الأحمر، مرصعة بالذهب الملون، وأنواع فيها من الذهب على صورة سنبلة الصنوبر، وسقفها باللوح والمسمار، والسطح المبارك بجص الجير والرمل المحمّر، في السطح أربعة مضاوي (ثقوب لإدخال الضوء) مثل مضاوي الحمام، قدر كل واحد الأفل الأكبر، تعمل ضوءاً للبيت مثل النهار..الخ.
ويتحدث بعد هذا عن حبال أستار الكعبة وتوثيقها في رأس الحائط. ثم يصف ابن الصباح الميزاب في صفحة 132 من المخطوط بأنه من عود الأبينوس، وهو ملبس بالنحاس الصيني، مذهب بماء الذهب الأحمر، ويصب في مرمرة خضراء في حجر اسماعيل مثل قطر نهر الكوثر عند نزول المطر...
ويذكر أن طوله قدر ذراع بذراع الشرفاء الطويل، وهو يحكي أنه عندما تمطر السماء ترى المجاورين يقفون تحته يتبركون من الماء النازل من سطح البيت رجاء تطهيرهم من الذنوب.
ويؤكد مرة أخرى أنه عاجز عن وصف فضائل البيت، وهنا يروي حديث ابن عباس رضي الله عنه عن أن الصلاة في هذا المسجد تعدل مئة ألف صلاة في غيره، وأنه كان يقول أيضاً: إنه، كما تضاعف فيه الحسنات، تضاعف فيه السيئات. ومن هنا كان ابن عباس يفضل ألا يسكن مكة ويختار المقام بالطائف، حيث يوجد قبره اليوم وعليه مقام عظيم.
ويخلص بعد هذا للحديث مرة أخرى عن تعداد المناسك الستة عشر السالفة الذكر.
وبما أنه قضى السنة مجاوراً، فقد عاش في مكة أيام رمضان وما أدراك ما رمضان بمكة! وهكذا يتحدث عن التراويح وختم القرآن في ليلة القدر.
ولم يتأخر ابن الصباح، هو الآخر، عن كيل الحرم الشريف طولاً وعرضاً بالخطوات، كما عدد سواري الحرم وأبوابه.
ويتحدث ابن الصباح عن ظاهرة لاتزال شاهدة الى اليوم، وهي إقبال بعض الحجاج على شراء أكفانهم التي يبللونها بماء زمزم محتفظين بها الى وقت الحاجة.
ومن طيبة أخلاقه أنه، وقد قضى كما قلنا عاماً بكامله في مكة المكرمة، وعلى نحو ما قام به وهو في طريقه الى مكة من مدح الجهات التي مر بها... الأندلس، سبتة، مراكش، فاس، تلمسان، تونس، مصر... على نحو ذلك خصص جانباً من مذكراته لأهل مكة رجالاً ونساء، الذين قال عنهم: (وأكثرهم ـ جزاهم الله عنا خيراً ـ رجالاً ونساء، ما أحسنهم وجوهاً! وأحسنهم كلاماً! وما أضبطهم عادة وسيرة حسنة، ومن سيرتهم الحسنة أنه لا يدخل أحدٌ منهم الطواف إلا بشيء يتصدق به ويزكيه بعد طوافه، وكذلك نساؤهم، وطوافهم عند غروب الشمس بين المغرب والعشاء الآخرة يدخلون الطواف بأثواب حسان، الغالب عليها الأزرق، مزينين بالحلي والخلاخل من الفضة ومقابيس الذهب هم واولادهم الصغار).
وابن الصباح يشكر الله على أنه قام بهذه الحجة من مال حلال ـ على ما سلف ـ ميراث الأبوين المرحومين، وأنه وقف على عرفة وقفتين واعتمر إحدى عشرة عمرة، ودخل الكعبة على عدد الجمعات في السنة يدخل الرجال ثم النساء حيث يركع كل واحد بما يشاء، كل جمعة آليت على نفسي الطهور في زمزم والدخول الى داخل الكعبة نصلي داخلها كل جمعة عشرة ركعات، ثمانية واربعين جمعة (كذا)، وآليت على نفسي الطواف في كل يوم وليلة اثنان وثلاثون اسبوعاً (كذا) في كل أسبوع سبعة أشواط، ولكل طواف ركعتان خلف مقام إبراهيم الخليل.
وسيراً على النهج الذي سلكه قبل أن يصل الى مكة من وصفه الأقاليم التي مر بها، قام بتقديم وصفه للإقليم المبارك الذي أطيب بلده مكة فيقول: هي موضع بلا زرع ولا حرث إلا ما يجلب إليها من بلاد بعيدة على مسيرة ثلاثة أيام، وأكثر عيشها من التمر والإبل والنخل. وبعد أن يبرز أهمية الإقليم كَسُرّة للارض كلها، وينعت الحرم بأنه يشبه العروس تتجلى في حليها، يتخلص لتاريخ مكة مذكراً بدور الأشراف في القيام بشأنها والسهر عليها ذاكراً اسم الشريف أحمد بن عجلان (ت 788هـ/ 1386م)(9) مشيداً بالحشد الكبير من الأشراف الشجعان العربان أهل مكة الأبطال الأشداء الكرماء الفصحاء.
ويخصص ابن الصباح حيّزاً لمدينة الطائف (مرقد عبدالله بن عباس رضي الله عنه) الكثير المياه والشجر والفواكه التي تمد مكة بخيراتها على مرّ الفصول.
ويتحدث عن بجيلة وزهران، أقوام صالحين لا يعلمون عدداً ولا حساباً ولا الشر ولا الخير، لباسهم جلود المعز المدبوغ يدبغونه بالعروق الطيبة، له رائحة طيبة، وحبالهم من حلفة المسد. يسوقونها الى مكة للآبار والدلو ولخروج الماء من الآبار، لأن مكة ما لها ماء إلا من الآبار، كل بئر طوله وعمقه أربع وعشرون قامة! رطلهم ست أواق، وكيلهم موافق، ودرهمهم فضة، وصرفهم فضة وذهب وفلوس، عيشهم الغالب لحوم الجمال، وإدامهم أكثره السمن، والغالب عليهم تمر العجوة يخزنونه ويدسونه مثل دسّ التين، له حلاوة مثل العسل فارحون بأوطانهم، وكذلك جميع البلاد والأوطان في عيون أهلها جنة!
وبعض حديث ابن الصباح عن اليمن وعن العلاقة بينه وبين مكة في الخلقة والسحنة والفكر والفصاحة والعفة واللين والشفقة على الغريب. وابن الصباح يميز بين اليمنيين والمكيين في طبيعة سرعة الغضب، إذ ينسب الى هؤلاء أنهم يغضبون بخلاف أهل اليمن! وهو يعلل ذلك بأن أهل مكة من ذرية إسماعيل آل عدنان، وأهل اليمن من حمير آل قحطان، فأهل اليمن من العرب العاربة، وأهل مكة من العرب المستعربة، وأهل اليمن أخوال أهل مكة.
وقد تخلص ابن الصباح بعد هذا الى التعريف بأصوله اليمنية الأولى، حيث ذكر أنه من آل الصباح، جاء أجداده من بلدة سبأ المتصلة ببلاد مأرب، فيهم ملوك بني صالح الأصبحيون الكرام، إثنان من الأخوة محمد وأحمد ملوك الزمان.... بلاد الصباح منها ابرهة بن الصباح صاحب الفيل والفارس المشهور بالفروسية والشجاعة في جميع الكتب الى اليوم.
وبعد الكثير من الإشادة بالملك الصباحي يقول: لكن أيام السعادة مكتوبة مؤجلة مختومة في اللوح المحفوظ مخطوطة!
وهنا يتخلص الى ذكر أخباره مع الملك الحبشي والتي انتهت بقيادة الجيوش الحبشية ومن معها من عرب اليمن الى مكة التي كان فيها آل عبدالمطلب، حيث كانت مصارعهم وانتصر أهل مكة.
قال ابن الصباح: وهؤلاء الصباحيون او الأصباحيون هم اليوم ملوك تهامة ومشايخ عرب البادية والجبال، كلهم من ذرية قيسوم بن أبرهة بن الصباح، انتشروا في المشرق والأندلس والمغرب.
ويختم الباحث إفادات ابن الصباح عن مكة المكرمة وما يتصل بها بما استطرد به من ذكرها في أماكن أخرى. وهكذا فبمناسبة حديث له (ص 25) عن الأواني الصينية الرفيعة قال: إنه رآها بحرم مكة بأغلى ثمن، وأنه سأل أهل مكة عن سبب غلاها، إذ كانت القطعة الواحدة منها بخمسين درهماً، وهنا ما يبلغ الدينار..الخ. فأجابوه: إن من خصائص هذه الصحون أنها تقاوم السموم، فإذا وضعت مادة سامة فيها تكسرت لحالها! ولذلك كانت أثمانها غالية وهي بين لون أخضر أو سماوي.
وفي معرض حديث عن الصرامة في الحكم يتحدث عن صرامة العثمانيين قال: إنه ليلة خروجة من جبل عرفة والتحاقه بمنى لم يذق للنوم طعماً لكثرة اللصوص والجبالصة، وهو يرمي الجمرات أيضاً حيث كان مهدداً بالسراق، قال: فتجب الغلظة إذن في الأحكام مع هؤلاء الظلام، يعني على نحو الحال عند العثمانيين الذين أخذوا في فرض هيمنتهم على المنطقة.
الهوامش
(1) سلمت غرناطة بمقتضى الإتفاق يوم 2/1/1492م/ 2/3/897هـ. انظر عبدالهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، جـ 7، ص 321.
(2) عبدالهادي التازي، المغراوي وفكره التربوي، نشر مكتبة التربية العربية لدول الخليج 1986م. وايضاً التاريخ الدبلوماسي للمغرب، جـ8، ص 130
(3) الحسين بوزينب، تقييم للكتابات الأعجمية الموريسكية، مجلة دار النيابة، السنة 2، العدد السادس (1985) طنجة اللغة الموريسكية المسماة بالعجمية ضمن أعمال البحث اللساني والسيميائي، الدار البيضاء: 1981م. القيمة الحقيقية للرموز الخطية في الأدب الأعجمي ضمن أعمال الأدب الإلخاميات الموريسكية، تونس 1986م؛ الدين واللغة من خلال المكتوبات العجمية الموريسكية، بحث مقدم الى المؤتمر العالمي الثاني للدراسات الموريسكية، تونس 1983م؛ محمد رزوق، مختصر رحلة الشهاب الى لقاء الأحباب للحجير الأندلسي أفوقاي (الدار البيضاء: كلية الآداب 1987م).
(4) متاع في الإصطلاح المغربي تعني: ديالك أو تبعك، والغرب: القُب.
(5) يلاحظ (مهل) عوض (محل)، لأن الجانب لا ينطقون الحاء يبدّلونها هاء.
(6) (تقول) بالدارجة الأندلسية المغربية تعني كأن أو مثل أو شبه.
(7) لم يتمكن الباحث من معرفة التاريخ الذي تمت فيه الرحلة.
(8) سورة النساء، الآية 58
(9) هل يمكن أن يفهم من هذا أن الرحلة تمت في أيام عجلان (777ـ788هـ): اي في القرن الثامن الهجري؟ وقد علمنا ان ابن الصباح كان يقول عن غرناطة: ردّها الله دار إسلام، وهذا إنما سلمت غرناطة عام 887هـ/1492م
المصدر:موقع الحجاز
أصل الرحلة مودع بدار المكتبة الوطنية بتونس تحت رقم 2285، وهي من ثلاث وسبعين ومائتي ورقة، وتوجد لها صورة بالخزانة العامة بالرباط رقم 1874. ولم يتمكن الباحث من معرفة تاريخ بالضبط، على الرغم من تتبعه لغضون الرحلة عبر المراحل التي قطعها الرحالة، انطلاقاً من حديثه عن الأندلس، وملك بني الأحمر، ومروراً بسبتة وفاس ومراكش أيام مرين، وتلمسان أيام بني عبدالواد، وتونس أيام الحفصيين، ومصر أيام بقية المماليك.
كان ابن الصباح يقول عن غرناطة: ردّها الله دار إسلام(1). وكان يسأل الله أن يرزق الصبر للذين بقوا بالأندلس، مما يذكر بالنصيحة التي قدمها المغراوي (ت 929هـ/ 1523م)(2). إلا أن الرحالة ابن الصباح يتحدث عن شخصيات لقيها، وعن إفادات سمعها، ترجع الى ما قبل هذا التاريخ. ومن هنا كان الباحث يعتقد أن نص (الرحلة) الذي يتحدث أحياناً عن ابن الصباح بقوله (رحمه الله) مكتوب من طرف موريسكي ثان؛ ولهذا فإن الباحث يذهب الى أن (الرحلة) التي بين أيدينا عملت فيها يدان اثنتان: أولاهما يد الرحالة ابن الصباح الذي يبدو أنه قام بالرحلة في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ثم أتى بعده موريسكي آخر فنسخ الرحلة وتصرف فيها حسبما تجدد من أحداث في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
وبعد هذا فإن من الملاحظ أن أسلوب (الرحلة) كان هو الأسلوب الذي يوجد في أغلب المخطوطات الموريسكية الألخميادية(3). وأيضاً من خلال قراءة بعض المقاطع التي تتعلق بمكة يمكن ملاحظة بعض التجاوزات اللغوية والنحوية التي لا تخفى على القارئ.
و(الرحلة) ذات فائدة كبيرة سواء على الصعيد التاريخي أو الإجتماعي. ومن الأفضل الإتيان بنصها كما هو، حرصاً على تبليغ الصورة كما هي.
بعد أن يتحدث ابن الصباح عن مروره بينبع للتزود بما يحتاج اليه من هذه السوق التي يوجد فيها حتى (لبن الطير) على حد تعبيره؛ وبعد أن يتحدث عن آلاف من المشاعل الكبرى التي تضيء الليل في وجه القاصدين، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم؛ وبعد أن يصف وسائل النقل والإتصال بما فيها الهوادج التي توفر الراحة للمسافرين وكأنهم في عرس، يعيشون في بيوتهم أكلاً وشرباً ومناماً، على نحو ما جاء في (رحلة) البلوي؛ وبعد الحديث عن رابغ والإشارة الى الفرق بين حج الإفراد والتمتع والقران، والى التجرد من المخيط من الثياب وارتداء لباس الإحرام والتزام النطق بالتلبية المطلوبة.. بعد كل هذا يتحدث عن وصوله الى مكة في فصل شديد الحرارة لم يحدد تاريخه بالضبط، وكأن التاريخ لا يهم ابن الصباح! وهو يقول بعد كل هذا وبأسلوبه التلقائي البسيط:
قال المؤلف: والله لقد أحرمت بالإفراد وكشفت رأسي، ما كان إلا ثلث النهار، ورأسي قد انتفخ من شدة الحرور، وكأنه قِدْر الغرب من متاع(4) الحمام حتى غطيت رأسي وفديته!
ثم نرحلوا (كذا!) الى بطن مر على بعد من مكة بثلاث مراحل، وندخلوا (كذا) مكة، شرفها الله، فمنهم الركب الأول يدخلها أولاً ليأتي من (مهل)(5) في الجحفة، والغير الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس الى اليوم السابع يوم التروية، يوم الطلوع الى منى.
قال ابن الصباح: كل ما ذكرنا من مراحل برية الحجاز طروق (كذا) في واد بين جبال سود عالية مع السحاب حجارة بلا شجر ولا خضرة، الشجر الذي فيها بلا ورق!، ومن شدة الحر جبال مكة والحجاز مسيرة شهرين سود مثل الحريق، (تقول)(6) الدخان جرى عليها والنار، بلاد حارة الشتاء والصيف كله فيها سواء، ودليل ذلك قوله عليه السلام: (من صبر على حرّ مكة وجوع المدينة ضمنت له على الله الجنة).
وبمثل الشعور الذي هيمن على الرحالين السابقين من أمثال العبدري وابن بطوطة، وهما يجدان أنفسهما في مكة المكرمة، في المسجد الحرام أمام الكعبة، على الرغم من كل المخاطر والأهوال التي تعترض سبل القاصدين الى ذرية إبراهيم الذين تهوي اليهم أفئدة الناس، بمثل ذلك الشعور يعبر هذا الموريسكي الذي يستحضر نعمة الله عليه بتمكينه من جوار هذا البيت الشامخ المنيف الذي كان منبع الخير والفضيلة بالنسبة للطائفين والركّع السجود.
قال ابن الصباح: (والله لقد دخلت مكة، شرفها الله، ونحن نطوف بالكعبة الشريفة، وهلّ علينا الهلال(7) ونحن طائفون بالكعبة الشريفة فلله الحمد كثيراً كما هو أهله، والحمد لله الذي سلمنا من تلك المفاوز والقفار المهلكة والجبال الوحشة، كم من حاج ينتظرونه أهله وهو قد مات على عطش! وكم من سلكها ولم يبلغ حجه، وكم من أنفق ماله ولم ينله منها شيئاً (كذا) وكم من سلطان يتمنى النظر في تلك الكعبة الشريفة ولم يرها! وكم من أمير ووزير يريد المشي ولا يحمل، وكم من يريد وصلها بالمال ولا يصل لها، وكم من مذنب يريد أن يطهر ذنوبه بالوقوف على عرفه ولا يعطى، وكم من يتمنى الوصول اليها ولا يصل، وكم من واصل الى نصف الطريق ولم يبلغ، وكم من بلغ الى يوم منها ولم يبلغ! وكم من زعيم بماله ورجاله ولم يصل! وكم من غني زعيم بغناه ولم ينفعه غناه! وكم من فقير آيس يبلغ! وكم من حقير حقر لفقره وبلغ مراده! وكم من أموال اكتسبت وجمعت بالقناطير المقنطرة ولم يبلغ صاحبها الموضع الشريف! وكم من قليل بلغ بالعناية من عند الله ولم يحتج الى مال ولا الى زاد، ولا الى ركوب إلا حملته العناية، ومن قال: ذلك الموضع لا يبلغ الا بالمال والجمال والزاد والرواحل، فقد نكر (كذا) نعمة الله وعنايته! بل الحامل هو الله سبحانه!).
قال المؤلف: بلغنا مكة والكعبة المشرفة وسلمنا عليها من باب بني شيبة المبارك علينا وعلى كل من رآه، ورأينا الكعبة وبكينا ولذلك تسمى ببكة؛ لأنها تبكي من نظر إليها، ولو كان قلبه مثل الحجر يبكي بلا خلاف، فنحن، لله الحمد، وصلنا بعناية الله وجاورنا بالحلال من بقية مال والدينا إذ كان مالاً حلالاً، وصلنا الى هذا المقام، وجاورنا وبلغنا المراد من الله سبحانه وتعالى، واطّهرنا من الذنوب السالفة، خرجنا الى أبينا ودعونا كما وجب علينا... وأنه علينا نعم لا تحصى، فلله الحمد كثيراً، والشكر مادامت أرواحنا في أجسامنا، والروح والنفس تتمنى الى يوم يبعثون يوم البعث ويدخلون المؤمنون الجنة، ونتوسل بسيد الأولين والآخرين، بنبينا وشفيعنا محمد العربي القرشي الهاشمي العدناني، خير ولد إبراهيم الخليل وإسماعيل الصادق، وصاحب الوعد الجميل صلى الله عليه وسلم، مادام الداعون يدعون بالخير الى محمد وآل محمد بالصلاة والتسليم الى يوم الحشر والدين، صلاة تفوح مسكاً وتعبق عبقاً بريح طيبة الجنة والرضوان، مادامت الدقائق والساعات والأيام والجمع والشهور والسنون والأيام المباركة من الأعوام والدهور بعدد الشهور والحساب من جري الأيام، حتى يصير الناس فريق في الجنة وفريق في السعير.. صلاة متصلة برضاء الرب الكريم، والمولى العظيم، الى أن يحضروا سر حضرة القدس في الكرامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن اولئك رفيقا، آمين نحن وجميع المسلمين كافة، ويشفع بعضنا في بعض ويسلم بعضنا على بعض، في دار السلام وجنات النعيم، والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف: لما جاورت مدينة مكة المكرمة والكعبة الشريفة بيت الله الذي قامت عليه السموات والأرض على وجه الماء قبل الأرض، وبعد ذلك من تحته دحيت الأرض، ومن تحته خلق الله التربة الذي (كذا) خلق الله آدم منها، ومن تلك التربة خلق الله جميع ألوان التراب، وعلى هذه البيت الشريفة (كذا) دوران الفلك والشمس والقمر والنجوم والبروج المزينات التي تسير فيها الشمس وهي خوية؟ الأرض وعجائبها لا تنحصر، ولكن ذكرنا منها الاختصار.
وهذه صفات عرفة والمزدلفة، والمشعر الحرام، أعاد الله علينا وعلى المسلمين جميعا من بركاتهم(كذا).
وقد كان ابن الصباح يُعنى بالرسوم التي تقرب الصورة للذين لم يسعفهم الحظ بالوصول الى هذا الفضاء المليء بالكثير من المعاني والدلالات التي تظل بعيدة كل البعد عن الذين لم يدركوا الوصول الى الكعبة فظلوا شاردين تائهين.
ومن الأفضل نقل تلك الرسوم على ما هي في المخطوطة في ورقتها الثانية والعشرين بعد المائة (حرف أ وحرب باء ويلاحظ أن تنقيط الحروف يخضع للمصطلح المغربي).
والطريف في رسم الكعبة تضمينه اتجاه مختلف البلدان الى أركانها الربعة، وهو الصنيع الذي يذكر بالرسم الذي وضعه الصفاقسي في القرن نفسه (985هـ/ 1551م) والذي يصاحب رسم الكعبة وعرفات.
قال عبدالله بن الصباح:
صوّرنا هذا البلد الأمين والكعبة الشريفة وحرمها المبارك ومناسكها المشهورة الشريفة كما تراها أيها القارئ والمستمع، فوجب علينا أن نذكر وننشر مفاخر هذا الذي صورناه، ونذكر فضائل هذه الجزيرة: الكعبة الشريفة وما أخصها الله على سائر البيوت في الأرض، وأعطى قاصدها من الجزاء، ومُجاورها بالكفاءة (كذا)، وما أعطى الله لهذا الحرم من الوفادة وأهله من الكفا... ولو نصف طول عمر نوح ما نبلغ ربع ولا ثمن الثمن من معجزاته الكرام.
ويستمر في حديثه عن مكة وما جاورها الى أن يعد المواقع الستة عشرة التي نعتها بالمناسك: جبل عرفة، المزدلفة، المشعر الحرام، الجمرات، منى، الكعبة، الحجر الأسود، الركن اليماني، الملتزم، حجر اسماعيل، مقام ابراهيم، بئر زمزم، الصفا، المروة، المسعى، التنعيم.
وفي معرض حديثه عن الحجر الأسود ردد قولة عمر بن الخطاب: والله إني لأعلم أنك حجر لا ينفع ولا يضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك. قال المؤلف: شاهدت في وسطه قدر الدرهم من البياض، وهو مطوق بطوق من فضة بيضاء، طوّقه بها عبدالله بن الزبير، فهو اليوم يضيء ليلة الظلمة مثل نجمة الزهرة.
وفي معرض حديثه عن فضائل زمزم قال: (ولقد مرضت في هذا الحرم أول مجاورتي، وحلفت أن طوال ما يقضي الله لي بمجاورتي لا أشرب ماء غير ماء زمزم، فدخل يدي ونحل جسمي حتى لم يبق إلا الجلد على العظم، فحبسني ربي مألوماً ستة وأربعين يوماً حتى أشفاني الله، وطابت نفسي بالماء والهواء، وصرت نشربه غدوة وعشية وكل ساعة يخرج من البئر ساخناً كأنه اللبن.
ولما أراد ابن الصباح توديع (مكة) شربه بنيّة حفظ القرآن، قال: فحفظته... وشربته لتوقي العطش وسافرت في البراري أزماناً وماتوا وأنا لم نر بأساً.
وفي حديثه عن كسوة الكعبة قال: إنها الى بني شيبة من ذرية طلحة وعثمان الذين نزلت فيه الآية في مفاتيح الكعبة لما أخذه العباس منهم: قال تعالى: (ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً)(8).
وابن الصباح يتخذ الذراع والقدم والأصابع معياراً لتحديد المسافات، وهكذا حدد الكعبة على هذا الأساس منبّهاً الى أنه يقصد أذرع وأقدام وأصابع الرجال المتوسطين. وبهذه المناسبة يعود الى ما وقف عليه مما طرز على كساء الكعبة، والى ما يوجد على وجه الباب المبارك، والوجه الثاني والثالث، وكذا الوجه الرابع الذي يحمل اسم سلطان ذلك الزمان والعام الذي كسا فيه البيت.
ومن المؤكد أن ابن الصباح كان من المحظوظين الذين دخلوا الكعبة، حيث يقدم وصفاً لها قائلاً: قال المؤلف الأصبحي: ارتفعت الكعبة من الأرض قدر طول الرجل، نطلع سبعة دروج من ألواح تنقل وترد، وباب الكعبة الشريفة متوسطة فيما بين مطلع الشمس في الشتاء والصيف، بابها من عود اليبانوز (الأبينوس) ملبس بالنحاس الصيني، مذهّب بماء الذهب، مغلق سائر الأيام إلا يوم الجمعة المباركة، يفتحونه بنو شيبة خدام البيت الحرام، يدخلونه الرجال، يركعون فيه. وداخله مفروش بالمرمر الملون، والحيطان بأنواع البلاط وألوان المرمر، عليها من داخل البيت حلة حمراء مرصعة من الحرير الأحمر، مرصعة بالذهب الملون، وأنواع فيها من الذهب على صورة سنبلة الصنوبر، وسقفها باللوح والمسمار، والسطح المبارك بجص الجير والرمل المحمّر، في السطح أربعة مضاوي (ثقوب لإدخال الضوء) مثل مضاوي الحمام، قدر كل واحد الأفل الأكبر، تعمل ضوءاً للبيت مثل النهار..الخ.
ويتحدث بعد هذا عن حبال أستار الكعبة وتوثيقها في رأس الحائط. ثم يصف ابن الصباح الميزاب في صفحة 132 من المخطوط بأنه من عود الأبينوس، وهو ملبس بالنحاس الصيني، مذهب بماء الذهب الأحمر، ويصب في مرمرة خضراء في حجر اسماعيل مثل قطر نهر الكوثر عند نزول المطر...
ويذكر أن طوله قدر ذراع بذراع الشرفاء الطويل، وهو يحكي أنه عندما تمطر السماء ترى المجاورين يقفون تحته يتبركون من الماء النازل من سطح البيت رجاء تطهيرهم من الذنوب.
ويؤكد مرة أخرى أنه عاجز عن وصف فضائل البيت، وهنا يروي حديث ابن عباس رضي الله عنه عن أن الصلاة في هذا المسجد تعدل مئة ألف صلاة في غيره، وأنه كان يقول أيضاً: إنه، كما تضاعف فيه الحسنات، تضاعف فيه السيئات. ومن هنا كان ابن عباس يفضل ألا يسكن مكة ويختار المقام بالطائف، حيث يوجد قبره اليوم وعليه مقام عظيم.
ويخلص بعد هذا للحديث مرة أخرى عن تعداد المناسك الستة عشر السالفة الذكر.
وبما أنه قضى السنة مجاوراً، فقد عاش في مكة أيام رمضان وما أدراك ما رمضان بمكة! وهكذا يتحدث عن التراويح وختم القرآن في ليلة القدر.
ولم يتأخر ابن الصباح، هو الآخر، عن كيل الحرم الشريف طولاً وعرضاً بالخطوات، كما عدد سواري الحرم وأبوابه.
ويتحدث ابن الصباح عن ظاهرة لاتزال شاهدة الى اليوم، وهي إقبال بعض الحجاج على شراء أكفانهم التي يبللونها بماء زمزم محتفظين بها الى وقت الحاجة.
ومن طيبة أخلاقه أنه، وقد قضى كما قلنا عاماً بكامله في مكة المكرمة، وعلى نحو ما قام به وهو في طريقه الى مكة من مدح الجهات التي مر بها... الأندلس، سبتة، مراكش، فاس، تلمسان، تونس، مصر... على نحو ذلك خصص جانباً من مذكراته لأهل مكة رجالاً ونساء، الذين قال عنهم: (وأكثرهم ـ جزاهم الله عنا خيراً ـ رجالاً ونساء، ما أحسنهم وجوهاً! وأحسنهم كلاماً! وما أضبطهم عادة وسيرة حسنة، ومن سيرتهم الحسنة أنه لا يدخل أحدٌ منهم الطواف إلا بشيء يتصدق به ويزكيه بعد طوافه، وكذلك نساؤهم، وطوافهم عند غروب الشمس بين المغرب والعشاء الآخرة يدخلون الطواف بأثواب حسان، الغالب عليها الأزرق، مزينين بالحلي والخلاخل من الفضة ومقابيس الذهب هم واولادهم الصغار).
وابن الصباح يشكر الله على أنه قام بهذه الحجة من مال حلال ـ على ما سلف ـ ميراث الأبوين المرحومين، وأنه وقف على عرفة وقفتين واعتمر إحدى عشرة عمرة، ودخل الكعبة على عدد الجمعات في السنة يدخل الرجال ثم النساء حيث يركع كل واحد بما يشاء، كل جمعة آليت على نفسي الطهور في زمزم والدخول الى داخل الكعبة نصلي داخلها كل جمعة عشرة ركعات، ثمانية واربعين جمعة (كذا)، وآليت على نفسي الطواف في كل يوم وليلة اثنان وثلاثون اسبوعاً (كذا) في كل أسبوع سبعة أشواط، ولكل طواف ركعتان خلف مقام إبراهيم الخليل.
وسيراً على النهج الذي سلكه قبل أن يصل الى مكة من وصفه الأقاليم التي مر بها، قام بتقديم وصفه للإقليم المبارك الذي أطيب بلده مكة فيقول: هي موضع بلا زرع ولا حرث إلا ما يجلب إليها من بلاد بعيدة على مسيرة ثلاثة أيام، وأكثر عيشها من التمر والإبل والنخل. وبعد أن يبرز أهمية الإقليم كَسُرّة للارض كلها، وينعت الحرم بأنه يشبه العروس تتجلى في حليها، يتخلص لتاريخ مكة مذكراً بدور الأشراف في القيام بشأنها والسهر عليها ذاكراً اسم الشريف أحمد بن عجلان (ت 788هـ/ 1386م)(9) مشيداً بالحشد الكبير من الأشراف الشجعان العربان أهل مكة الأبطال الأشداء الكرماء الفصحاء.
ويخصص ابن الصباح حيّزاً لمدينة الطائف (مرقد عبدالله بن عباس رضي الله عنه) الكثير المياه والشجر والفواكه التي تمد مكة بخيراتها على مرّ الفصول.
ويتحدث عن بجيلة وزهران، أقوام صالحين لا يعلمون عدداً ولا حساباً ولا الشر ولا الخير، لباسهم جلود المعز المدبوغ يدبغونه بالعروق الطيبة، له رائحة طيبة، وحبالهم من حلفة المسد. يسوقونها الى مكة للآبار والدلو ولخروج الماء من الآبار، لأن مكة ما لها ماء إلا من الآبار، كل بئر طوله وعمقه أربع وعشرون قامة! رطلهم ست أواق، وكيلهم موافق، ودرهمهم فضة، وصرفهم فضة وذهب وفلوس، عيشهم الغالب لحوم الجمال، وإدامهم أكثره السمن، والغالب عليهم تمر العجوة يخزنونه ويدسونه مثل دسّ التين، له حلاوة مثل العسل فارحون بأوطانهم، وكذلك جميع البلاد والأوطان في عيون أهلها جنة!
وبعض حديث ابن الصباح عن اليمن وعن العلاقة بينه وبين مكة في الخلقة والسحنة والفكر والفصاحة والعفة واللين والشفقة على الغريب. وابن الصباح يميز بين اليمنيين والمكيين في طبيعة سرعة الغضب، إذ ينسب الى هؤلاء أنهم يغضبون بخلاف أهل اليمن! وهو يعلل ذلك بأن أهل مكة من ذرية إسماعيل آل عدنان، وأهل اليمن من حمير آل قحطان، فأهل اليمن من العرب العاربة، وأهل مكة من العرب المستعربة، وأهل اليمن أخوال أهل مكة.
وقد تخلص ابن الصباح بعد هذا الى التعريف بأصوله اليمنية الأولى، حيث ذكر أنه من آل الصباح، جاء أجداده من بلدة سبأ المتصلة ببلاد مأرب، فيهم ملوك بني صالح الأصبحيون الكرام، إثنان من الأخوة محمد وأحمد ملوك الزمان.... بلاد الصباح منها ابرهة بن الصباح صاحب الفيل والفارس المشهور بالفروسية والشجاعة في جميع الكتب الى اليوم.
وبعد الكثير من الإشادة بالملك الصباحي يقول: لكن أيام السعادة مكتوبة مؤجلة مختومة في اللوح المحفوظ مخطوطة!
وهنا يتخلص الى ذكر أخباره مع الملك الحبشي والتي انتهت بقيادة الجيوش الحبشية ومن معها من عرب اليمن الى مكة التي كان فيها آل عبدالمطلب، حيث كانت مصارعهم وانتصر أهل مكة.
قال ابن الصباح: وهؤلاء الصباحيون او الأصباحيون هم اليوم ملوك تهامة ومشايخ عرب البادية والجبال، كلهم من ذرية قيسوم بن أبرهة بن الصباح، انتشروا في المشرق والأندلس والمغرب.
ويختم الباحث إفادات ابن الصباح عن مكة المكرمة وما يتصل بها بما استطرد به من ذكرها في أماكن أخرى. وهكذا فبمناسبة حديث له (ص 25) عن الأواني الصينية الرفيعة قال: إنه رآها بحرم مكة بأغلى ثمن، وأنه سأل أهل مكة عن سبب غلاها، إذ كانت القطعة الواحدة منها بخمسين درهماً، وهنا ما يبلغ الدينار..الخ. فأجابوه: إن من خصائص هذه الصحون أنها تقاوم السموم، فإذا وضعت مادة سامة فيها تكسرت لحالها! ولذلك كانت أثمانها غالية وهي بين لون أخضر أو سماوي.
وفي معرض حديث عن الصرامة في الحكم يتحدث عن صرامة العثمانيين قال: إنه ليلة خروجة من جبل عرفة والتحاقه بمنى لم يذق للنوم طعماً لكثرة اللصوص والجبالصة، وهو يرمي الجمرات أيضاً حيث كان مهدداً بالسراق، قال: فتجب الغلظة إذن في الأحكام مع هؤلاء الظلام، يعني على نحو الحال عند العثمانيين الذين أخذوا في فرض هيمنتهم على المنطقة.
الهوامش
(1) سلمت غرناطة بمقتضى الإتفاق يوم 2/1/1492م/ 2/3/897هـ. انظر عبدالهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، جـ 7، ص 321.
(2) عبدالهادي التازي، المغراوي وفكره التربوي، نشر مكتبة التربية العربية لدول الخليج 1986م. وايضاً التاريخ الدبلوماسي للمغرب، جـ8، ص 130
(3) الحسين بوزينب، تقييم للكتابات الأعجمية الموريسكية، مجلة دار النيابة، السنة 2، العدد السادس (1985) طنجة اللغة الموريسكية المسماة بالعجمية ضمن أعمال البحث اللساني والسيميائي، الدار البيضاء: 1981م. القيمة الحقيقية للرموز الخطية في الأدب الأعجمي ضمن أعمال الأدب الإلخاميات الموريسكية، تونس 1986م؛ الدين واللغة من خلال المكتوبات العجمية الموريسكية، بحث مقدم الى المؤتمر العالمي الثاني للدراسات الموريسكية، تونس 1983م؛ محمد رزوق، مختصر رحلة الشهاب الى لقاء الأحباب للحجير الأندلسي أفوقاي (الدار البيضاء: كلية الآداب 1987م).
(4) متاع في الإصطلاح المغربي تعني: ديالك أو تبعك، والغرب: القُب.
(5) يلاحظ (مهل) عوض (محل)، لأن الجانب لا ينطقون الحاء يبدّلونها هاء.
(6) (تقول) بالدارجة الأندلسية المغربية تعني كأن أو مثل أو شبه.
(7) لم يتمكن الباحث من معرفة التاريخ الذي تمت فيه الرحلة.
(8) سورة النساء، الآية 58
(9) هل يمكن أن يفهم من هذا أن الرحلة تمت في أيام عجلان (777ـ788هـ): اي في القرن الثامن الهجري؟ وقد علمنا ان ابن الصباح كان يقول عن غرناطة: ردّها الله دار إسلام، وهذا إنما سلمت غرناطة عام 887هـ/1492م
المصدر:موقع الحجاز
0 commentaires :
Post a Comment