الموريسكيين فى أمريكا الجنوبية:
هناك حديث – غير موثق أحيانا، وضعيف التوثيق فى أحيان أخرى- عن وجود عربى إسلامى فى أمريكا الجنوبية مصاحب لوصول كولون، بل وسابق عليه. سنترك الحديث الآن عن الشريف الإدريسى وكتابه "نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق" والذى وصف فيه بلادا شبيهة بأمريكا الجنوبية، ولن نتوقف عند رحلة محمد جاو عام 1307 التى لم يعد منها والتى ربما حملته إلى أمريكا.(3)
أما البيانات المحددة فهى تشير إلى أن كولون اصطحب معه إلى أمريكا مترجما للغة العربية، وتشير كذلك إلى وجود فعلى للمسلمين فى أمريكا بعد وصول كولون مباشرة. يذكر أغيليرا بليغيثويلو(4) بعض أسماء لموريسكيين أندلسيين وصلوا إلى أمريكا: ألفونسو دى تريانا، والأخوة جانييث، وإيستيبان....إلخ. أما إيوخينيو شهوان فيذكر أن أول أجنبى وطأت قدماه أرض تشيلى كان موريسكيا: إنه ألفارو ميثكيتا الذى قاد سفينة سان أنطونيو فى حملة إيرناندو ماجيلان عام 1520 (5)
نذكر هنا أن السلطات المسيحية الإسبانية قد أزعجها وجود مسلمين فى أراضى العالم الجديد وكون هؤلاء المسلمين يمارسون شعائر دينهم بشكل علني ولهذا فقد منح الكاردينال ثيسنيروس بعض صلاحياته لممثل محكمة التفتيش فى أمريكا، وجاء فى خطاب المنح "لأن فى هذه الاراضى كان هناك مواطنون يرتكبون ـ ضمن جرائم أخرى ـ جريمة ممارسة عقيدة موسى ومحمد. إن هؤلاء يحافظون على شعائرهم وتعاليمهم واحتفالاتهم المخالفة لعقيدتنا المسيحية"(6). ومن المعلوم أن القديس توما راجا قد طلب من السلطات الإسبانية السماح للموريسكيين بالسفر إلى أمريكا للعمل فى صناعة الحرير إلا أن طلبه قوبل بالرفض (7). وفى عام1539 أصدر الملك الإسباني قرارا بعدم سفر المسلمين واليهود وأبنائهم ممن تنصروا حديثا إلى أراضى العالم الجديد، أما فى عام 1543 فقد أصدر كارلوس الخامس قرارا بطرد المسلمين من أمريكا.
وقد أصدر الملك فيليبى الثانى تعليمات تقضى بأنه "لبقاء الهنود على اعتناقهم السليم للدين المسيحى وجب إبعاد الموريسكيين عنهم وعدم الاتصال بهم مطلقا، وبذلك شددت الرقابة للتفتيش عن الموريسكيين الذين مروا إلى الهند وهم موجودون بإسبانيا الجديدة ،أما الأشخاص الذين يعثر عليهم فوجب إرسالهم فى الحال دون السماح لأى واحد منهم بالبقاء مهما كانت الأسباب ....".
رغم كل هذه القرارات المتلاحقة التى تقضى بإبعاد الموريسكيين عن أراضى العالم الجديد فإننا نجد فى المصادر التاريخية ما يؤكد أن الوجود الإسلامى فى أمريكا لم ينقطع مطلقا، إذ يتحدث خوان لوبيث بيلاسكو عن الوضع فى العالم الجديد خلال الأعوام 1571ـ1574وذلك فى كتاب "جغرافية ووصف أمريكا منذ عام 1571وحتى عام1574"
يقول: رغم الحظر والأمر بعدم السفر إلى أمريكا دون تصريح فإن الكثيرين من العرب واليهود ذهبوا إلى الأراضى الأمريكية كتجار وبحارة" (. من ناحية أخرى نشير إلى أن قرارات الحظر المذكورة كان يتم التحايل عليها من قبل الموريسكيين، إذ كان هؤلاء يستخدمون تصاريح سفر صدرت لأشخاص آخرين، كما نشير إلى أن التظاهر باتباع المسيحية وممارسة الإسلام فى الحقيقة والإقامة فى قرى أمريكية بعيدة عن مراقبة رجال الكنيسة كل ذلك أسهم فى وجود عدد من المسلمين يصعب حصره. ويذكر الباحث الفرنسى لوى كارداياك أنه فى عام 1560 تمت محاكمة ثلاثة موريسكيين فى كوثكو ببيرو بتهمة ممارسة شعائر الإسلام، هذا بالإضافة إلى عدة محاكمات تمت فى المكسيك، بل إن رئيس أساقفة جواتيمالا نفسه –فرانثيسكو ماروكين- كان من أصل موريسكى، وقد اتهم عام 1543 بعدم صحة عقيدته المسيحية.(9). هذا عن الوضع فى الأقاليم الخاضعة للسيطرة الإسبانية، أما الأقاليم الخاضعة للبرتغال فكان وضع المسلمين فيها أحسن حالا، ذلك أن سياسة البرتغال من حيث السماح للمسلمين بالسفر إلى أمريكا كانت أقل تشددا من السياسة الإسبانية.(10)
تقول مصادر كثيرة إن سلطات محاكم التفتيش فى العالم الجديد –فى بويرتو ريكو على سبيل المثال- لم تكن تهتم كثيرا بتنفيذ التعليمات الخاصة بحظر دخول المسلمين أو تلك التعليمات الخاصة بالتفتيش عن كتب محظورة، بل إن العمدة أغيلار نفسه -كما تقول نفس المصادر- قد اتهم عام 1550 بعدم تنفيذ الأوامر الملكية الصادرة ضد موريسكيى بويرتو ريكو.
من ناحية أخرى يجب أن نضع فى الاعتبار أن قلة المصادر التابعة لمحاكم التفتيش والخاصة بموريسكيين لا ينبغى أن يفهم على أنه دليل على قلة عدد المسلمين ، فقد كان من المستحيل تقريبا أن تقوم السلطات بإحكام المراقبة فى تلك الأراضى الشاسعة، ثم إن السكان الأصليين لم يكن بإمكانهم التمييز بين الشعائر الإسلامية والمسيحية، ولم تكن لهم مصلحة فى الإبلاغ عن الذين يمارسون شعائر الإسلام. إذا وضعنا فى الاعتبار أن السلطات لم تكن تهتم كثيرا بتنفيذ تعليمات الحظر الصادرة إليها لاستطعنا أن نتفهم سر وجود مسلمين كثيرين فى أمريكا دون أن يترجم ذلك إلى عدد كبير من قضايا ضدهم.
لا يجب أن نغفل أبدا موضوع التقية عند الحديث عن الموريسكيين. لقد استطاع مسلمو الأندلس بعد سقوط دولتهم المحافظة على شعائر الإسلام لمدة تربو على 120 عاما بفضل التظاهر باتباع المسيحية، ومن الطبيعى أن يلجأ الموريسكيون فى أمريكا الجنوبية إلى هذه الوسيلة التى ثبتت فعاليتها فى إسبانيا.
نتحدث الآن عن وجود ملموس لموريسكيين فى أمريكا فنقول إن أحدهم –بدرو رويث ديلغادو- كان طبيبا وكان مسئولا عن الإيرادات الملكية وكان عمدة لسان خوان فى بويرتو ريكو.
وفى الأرجنتين – كما اكتشفت الدكتورة ماريا إلفيرا ساغارثاثو- لوحظ أن قرية كاملة لا تأكل لحم الخنزير وتدفن موتاها على الطريقة الإسلامية ولا تسمى أبناءها بأسماء تتعارض مع العقيدة الإسلامية، وتشير الباحثة إلى أنه مما ساعد على ذلك استخدام تصاريح مزورة، ووصول سفن غير مسجلة كانت تحمل على متنها من يستطيع دفع ثمن الرحلة، دون اعتبار لأصله أو ديانته. وتخلص الباحثة إلى القول بأن "نقاء الدم" فى أمريكا كان مجرد وهم.
منذ أيام قليلة ، وبالتحديد فى منتصف شهر يولية الحالى، صدر فى فنزويلا كتاب للباحثة ثيثيليا أيالا ( 11) أشارت فيه المؤلفة إلى وجود كلمات عربية تستخدم فى أمريكا الجنوبية ولم تدخل مع المحتل الإسبانى. كان هناك اعتقاد بأن هذه الكلمات تنتمى إلى لغة سكان البلاد الأصليين، لكن الباحثة –وهى متخصصة فى هذه اللغة- أكدت خطأ ذلك الاعتقاد وخلصت إلى أن أصلها عربى. ولنا أن نستنتج بدورنا أن هذا الأثر اللغوى دليل على وجود عدد غير قليل من الموريسكيين وغيرهم من المسلمين فى أمريكا، فليس من المتصور أن يحدث أفراد قلائل أثرا لغويا ملحوظا.
كل هذا الكم من الآثار المذكورة يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الوجود الإسلامى فى الأمريكتين بدأ منذ قرون عديدة، وقد يكون سابقا لوصول كولون (خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار الحديث المتكرر عن وصول بحار مسلم صينى إلى أمريكا قبل كولون بنحو قرن كامل) ونظن أن الموضوع لا يزال فى حاجة إلى دراسة موثقة نأمل أن تتم قريبا.
ملاحظات عامة:
نعود إلى الكتاب الذى نقدم له فنقول إنه يعالج القضية الموريسكية من بدايتها، وعليه فانه يصلح كمدخل لدراسة كتب أخرى، ثم إن الكتاب يتحدث عن الدراسات الموريسكية ولذلك فهو يشير إلى المجالات التى درست بشكل جيد. ويمكن للباحث من خلال صفحات هذا الكتاب أن يهتدى إلى تلك الجوانب التى لم تدرس بعد أو إلى تلك التى لم تتم دراستها بشكل كاف. على أننا يجب أن نضع فى اعتبارنا أن الكتاب نشر منذ خمسة عشر عاما وأن هذه الفترة قد شهدت تطورا ملحوظا فى كم وفى نوعية الدراسات الموريسكية.
الكتاب على أهميته يحتاج فى نظرنا إلى إصدار طبعة أخرى منه، فالمؤلف يتحدث عن باحثين "شبان" لا نظن أنهم فى عداد الشبان الآن، على الأقل من حيث إصداراتهم الكثيرة التى تضعهم فى مصاف العلماء الكبار.
ونلاحظ بشكل عام أن الكتاب يفتقد التأصيل فى بعض الأحيان، وكنا نتمنى لو أن المؤلف أشار إلى المراجع التى اعتمد عليها، كما تلفت انتباهنا كثرة الافتراضات التى لا نعلم لها أصلا.
إذا كان لنا أن ننتقد جانبا فى الكتاب فهو جانب كتابة أسماء الأعلام، ولو أن المؤلف اتبع طريقة محددة فى كتابة أسماء الشخصيات العربية لأراحنا من عناء البحث، خاصة إذا تعلق الأمر بشخصيات غير معروفة. الطريف أن المؤلف نفسه قد كتب مقالا وجه فيه نقدا لاذعا لصاحب إحدى المؤسسات العلمية الخاصة فى المغرب العربى لأنه لم يتبع نهجا محددا فى كتابة الأسماء.
رغم هذه المآخذ التى أشرنا إليها لا يزال الكتاب فى رأينا – خاصة الجزء الثانى- يمثل إضافة كبيرة إلى الدراسات الموريسكية و يسد فراغا –وإن كان بشكل جزئى- فى الجانب المتعلق بالموريسكيين فى الدول التى هاجروا إليها. يتضح من الكتاب أن مسلمى الأندلس بعد طردهم من أسبانيا قد اتجهوا إلى كل أنحاء العالم شرقا وغربا، ومن ثم فإنهم حملوا معهم التراث الإسلامى إلى البلاد التى توجهوا إليها.
نختتم هنا هذه المقدمة بتقديم جزيل شكرنا إلى مؤلف الكتاب وإلى المجلس الأعلى للثقافة لإصداره كتابا آخر عن القضية الموريسكية نأمل أن يفيد منه دارسو التاريخ الإسلامى.
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.
المصدر: دراسات أندلسية موريسكية
0 commentaires :
Post a Comment