--------------- - - -

Jul 18, 2009

إسبانيا بعيون عربية دعوة إلى مراجعة إشكاليات النظرة المسبقة .. ومناقشة دور الرحالة في ترسيخها_ج2

د. محسن الرملي
ومما جاء في حديثه عن مدينة بلنسية: وفيها من كل نزعة عربية صحيحة، وكل عرق في العرب عريق. ومن مزاياها أنها متصلة بالبحر والجبل، فلا يزال عيشها هنيئاً، ولا يبرح سمكها طريئاً، وجبنها طريئاً، وإن لم يكن فيها سوى بساتينها التي لا يشبهها في الدنيا شيء سوى غوطة دمشق..). ألا يحق لنا التساؤل هنا عن فرق الجبن والسمك وهذه البساتين عن بساتين الدنيا الأخرى كالإيطالية المتوسطية المجاورة لإسبانيا.. مثلاً؟!! وفي حديثه عن مرسية قال: (ومن الغريب اجتماع الضدين في تلك البقعة كما في دمشق، فإن الجبال فوقها كجبل قاسيون وغيره، جبال جرد وهضاب صلع، لا يكاد يرى فيها الناظر أدنى نبات، وحذاءها غوطة دمشق التي تضرب بها الأمثال. وهنا الحالة بعينها..) بل ويصل الأمر بالتلبس حد طعم الفاكهة: (وأما لذة فواكه مرسية وكثرتها، فهما مما يكل عن وصفه القلم، فهي في ذلك كدمشق، وفيها كدمشق المشمش الذي لا نظير له..).!!!!. هذا وقد زار أرسلان مدينة الأسكوريال بمكتبتها الشهيرة بالمخطوطات العربية: (ولما زرت أسبانيا سنة 1930، أي من ست سنوات، ذهبت إلى الأسكوريال أنا واثنان من شبان المغرب النجباء، وسرواته الأدباء، وهما السيدان العالمان الفاضلان أحمد بلا فريج، ومحمد الفاسي الفهري.. فطوفنا في الأسكوريال مدة ساعات). كما اتصل أرسلان بالمستعرب الأسباني الكبير آسين بلاثيوس. وبالإضافة إلى تمجيده الغنائي/ البكائي للماضي العربي الإسلامي في الأندلس فقد أثنى على طابع الاعتزاز بالنفس والفخر وثبات الرأي وقوة العزيمة في شخصية الإسباني وبالطبع فإنه يعزو كل ذلك إلى أنه من موروثات العرب فيهم!!.المؤسف في الأمر أن صدى هذا النوع من الرحلات وتأثيره ينعكس لاحقاً على قارئيها ودارسيها ليتبنوا النظرة المسبقة ذاتها بل وأحياناً تلبس اللغة ذاتها، وكمثال على ذلك ما نجده في كتاب الدكتور سامي الدهان عن (الأمير شكيب أرسلان.. حياته وآثاره) . نقتطف من أقواله التالي، على سبيل المثال، كعينة لأسلوبه: (ولن يمل القارئ من هذه الصحبة الجميلة، لأنه يتعرف فيها إلى بيته وأراضيه ويتخيل من خلالها أسرته وأهله، فيتصور كيف عمروها وأسالوا فيها الحياة على أجمل ما تكون الحياة، وإن الإنسان لا يمل أن يطوف في أملاكه، وأن يطلع على خيراتها، وهذه الربوع قطعة منا لا تنفصل، وعضو من أعضائنا لا يُبتر، وفلذة من أكبادنا، نحن إليها حنين الابن البار لأبيه الفقيد حين يتذكر محاسنه ويتلو مفاخره، فيرفع الرأس تيهاً وفخاراً، ويعد أنه يحافظ عليها بالحب والتذكار، كما يحافظ على ما ورث من سكن يعيش فيه وبيت يأوي إليه سواء بسواء. ومن لنا بدليل أروع من هذا الدليل (يعني أرسلان) يقودنا ببيانه إلى هذا الفردوس الأرضي..)ص285. ثم جاء أمين الريحاني (1876 ـ 1940) ليدون مشاهدات رحلته في كتابه (نور الأندلس) والتي يصل فيه الأمر إلى حد يعتبر فيه إسبانيا بلداً عربياً آخر.. ومثل غيره يملأ رحلته بهوامش التاريخ ومعلوماته وتطغى العاطفة وخاصة عند زيارته لإشبيلية وتذكره للملك الشاعر المعتمد بن عباد، وكذلك عند زيارته لقصر الحمراء في غرناطة زرت الأندلس فوقفت في (الحمراء) في الغرفة التي كتب فيها واشنطن آرفين كتابه النفيس، فسمعت أصواتاً تناديني باسم القومية ومن أجل الوطن وتدعوني إلى مهبط الوحي والنبوة). وهنا نجد، إضافة إلى تأثير الموروث الكلاسيكي العربي والأدبي عن الأندلس، تأثيرات الكتاب الرومانسيين الغرب عنه. وهذا أمر أشارت إليه بدورها المستعربة نييبس بقولها : هذا الأندلس الذي تمت إعادة بنائه نصياً من خلال قائمة طويلة من الكلاسيكيين العرب ومن الأعمال الاستشراقية الأوربية وأيضاً من قبل الكتاب الرومانسيين الغربيين مما صار يعني مرحلة من المجد التي يفخرون بها بمنزلة عزاء لسوء حاضرهم، فراحوا يظهرون من خلالها متفاخرين أمام أوربا التي تهيمن عليهم، ولسان حالهم يقول: أنتم سادة هذا العصر ونحن كنا سادة عصر آخر(16). ربما يكون الفلسطيني نجاتي صدقي (1905 ـ 1979) هو الاستثناء عن القاعدة السابقة ـ أي عدم تبنيه للنظرة المسبقة ـ وقد يكون ذلك بحكم تكوينه الثقافي والسياسي وكذلك الظرف الذي زار فيه إسبانيا أيام الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات، فهو شيوعي أوفدته منظمة <الكومنترن> إبان الحرب الأهلية كي يتوجه إلى الجنود المغاربة للتخلي عن القتال إلى جانب فرانكو ضد الجمهوريين، بل وأسهم في تأسيس الجمعية الإسبانية ـ المغربية في مدريد. وإلى جانب هذا الدافع الحزبي هناك دوافعه الصحفية أيضاً، لذا لا نجد في مذكراته صبغة البكائيات تلك وإنما يتسم أسلوبه بين عرض الأبعاد الفكرية والسياسية والسرد الواقعي الواصف، بحيث نجده يتحدث عن شخصيات بعينها وبأسمائها وحالاتها الاجتماعية الخاصة وظروفها العائلية والحزبية، كما هو واضح في مذكراته، وتحديداً في الفصل الثامن المعنون: (الحرب الأهلية الإسبانية)(17).
الرابعة: النصف الثاني من القرن العشرين، حيث إننا نلاحظ بعض بوادر التغير في التسمية من (الأندلس) إلى (إسبانيا)، وهذه الوجبة من الرحلات، بدورها، يمكننا تقسيمها إلى اثنين: المدونة وغير المدونة. الأولى، المدونة، هي في أغلبها، لباحثين ودارسين. أما الثانية، غير المدونة، فهي لمثقفين ومبدعين معاصرين.
زار السوري عماد الدين التكريتي إسبانيا في أوائل الخمسينيات، وأصدر في ضوء هذه الرحلة كتابه (إسبانيا .. موطن الأحلام) (18). حيث يصف الدكتور الخليفة(19) التكريتي بأنه: من أكثر الرحالة العرب مبالغة في آرائه وأحكامه، فقد صنف هذا الكاتب الإسبان في عداد الملائكة، واعتقدَ بأن هذا الشعب يعتز بشدة بماضيه العربي.. ولا يعلم التكريتي بأن هناك شريحة مهمة من المجتمع الإسباني لا يرغبون في سماع كل ما له صلة بالتأثير العربي في الحياة الإسبانية، وهناك من يود شطب تلك الحقبة التي وجد العرب فيها على هذه الأرض من تاريخ إسبانيا ويستمر التكريتي في نظرته المتفائلة فيرى بأن كل ما يوجد في إسبانيا هو عربي، وهو يعتقد بأن الدم العربي لم يختلط بالدم الإسباني فحسب، بل إنه انتشر في الأمريكتين عن طريق هؤلاء الرجال الذين رافقوا كريستوفر كولون، والذين كانوا، حسب رأي التكريتي، من أصول عربية. ويسمي غرناطة بشام الأندلس، ويرى بأن الموسيقى الشعبية الإسبانية المعاصرة وريثة للموسيقى العربية. وهو يخترع لكلمة (فلامنكو) أصلاً عربية فيقول: ومن الجدير بالذكر أن بعض علماء اللغة يجدون أن كلمة فلامنكو هي ذات أصل عربي تعني: فلا: فلاّح.. ومانكو: أغنية، أي أغنية الفلاح. ولا شك بأن الإصغاء إلى هذا النوع من الأغاني ليذكرني ببعض الأغاني العربية الشعبية التي نسمعها في الريف والتي يحييها الأخوان رحباني الآن كـ(يا رايحين مشرق).
الباحث والكاتب المصري د. حسين مؤنس، زار إسبانيا للمرة الأولى سنة 1940 ولكن ما كتبه يأتي بعد إقامته فيها كمدير للمعهد المصري للدراسات الإسلامية ما بين الأعوام 1905 و1969. فنشر كتابه (رحلة الأندلس .. حديث الفردوس الموعود) سنة 1963. وقد أنجز د. حسين مؤنس الكثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بشأن الثقافة الأندلسية كما قام بترجمة العديد من الكتب من الإسبانية إلى العربية، وهو الوحيد، تقريباً، من بين الذين ذكرناهم يجيد التحدث باللغة الإسبانية. ولكنه وعلى الرغم من طول المعايشة والنفس الأكاديمي والبحثي عنده، إلا أنه، هو الآخر، قد غلبته العاطفة والنظرة المسبقة: هناك ضربت أشجار عربية جذورها في تربة أوربية، فأخرجت ثمراً غربيا طعمه شرقي. وهو بنفسه يشخص ذلك دون أن يسلم منه: حيثما حللت في أوطان العرب وجدت الأندلس على كل لسان: من رآه يحلم بما رآه، ومن لم يره يحلم بما يمني النفس برؤيته. والأندلس عندهم جميعاً بلد عربي قائم بأهله ومدائنه وعلمائه وشعرائه ومجده الذي كان(21).
النوع الثاني، وهم الذين قدموا في الربع الأخير من القرن العشرين، وغالبيتهم من المثقفين المعاصرين والدارسين لاختصاصات غير الأندلسية التقليدية ثم المهاجرين والسياح الذين صار عددهم يعد بالآلاف. وهؤلاء بشكل عام لم يقوموا بتدوين رحلاتهم في كتب خاصة ضمن الجنس الأدبي المعروف للرحلات، ونعزو ذلك ربما لمتغيرات العصر وتمكن وسائل الإعلام والصحافة من التغطية وبالتالي ضمور أدب الرحلات بشكل عام، لكننا سنتعرف على طبيعة إقامتهم ورؤيتهم من خلال المقاطع المتناثرة في مذكرات أو مقابلات صحفية أو في نصوصهم الإبداعية، ونعني تحديداً من هؤلاء، كنماذج، المثقفين المعاصرين أمثال: نزار قباني وعبدالوهاب البياتي.. هؤلاء قد كانوا أكثر سعياً نحو التعرف على الثقافة الإسبانية المعاصرة إلا أنهم لم يتخلصوا تماماً من هيمنة النظرة العاطفية المسبقة على ذهنياتهم، فالبياتي قد عرف ببكائياته (في القصائد) عند أسوار غرناطة وتحت خيرالدا إشبيلية وتقمصاته لشخصيات أندلسية.. وغيرها. أذكر أنه عندما قابلته في مدريد سنة 1988 شدد بنصحه لي في أن أقوم بزيارة الآثار الأندلسية، معتبراً أنها ضرورة، ومستخدماً الرؤية العاطفية ذاتها، لكنه حين وجد انعدام الرغبة عندي. قال: على الأقل طليطلة فهي قريبة. قلت له: أعرف كل ذلك من الكتب ولا حاجة بي لملامسة الحجر كي أتأكد من حقيقته.. فضحك عندها ودعاني لمشاهدة فيلم أمريكي يعتمد التقنيات الحديثة في السينما. أمر كهذا يؤشر، بالنسبة لي، نوع من بداية تحول مازال يحمل في طياته: الثنائية.. أي بين هيمنة النظرة المسبقة والنظرة الواقعية المعاصرة، ويدلل على ذلك ما نجده من تنوع في قصائد البياتي ذاتها، حيث أن بعضها يتعلق بالأندلس والآخر بمعاصرين إسبان كلوركا وألبرتي وسلفادور دالي وبيكاسو.
أما نزار قباني فهو وريث وفيّ للنظرة المسبقة حيث نجد فيما كتبه عن إسبانيا؛ إعادةً وتمثلاً كاملين لها، وترديداً يكاد يكون نصياً لما كتبه رحالة الشام ـ خصوصاً أرسلان ـ الذين كانوا يربطون كل أندلسي بسوريا ودمشق، وقصيدته (غرناطة) معروفة بهذا الشأن، ثم نجد موجز نظرته بالمقطع التالي المفعم بالنظرة المسبقة والمستعارة سلفاً والمحتشدة بالمبالغة واللاواقعية والتهويم العاطفي الذي يمكن توصيفه حتى بالمرضي وبخاصة عندما يتحدث عن قطة (حتى وإن أردنا تأويلها كرمز لامرأة) تختاره وحده من بين مئات السائحين لتبثه أشجانها وتتغزل به (عربياً)!!!، فهو يقول: أما التجربة الإسبانية في حياتي (1962 ـ 1966) فقد كانت مرحلة الانفعال القومي والعاطفي. إن إسبانيا ـ بالنسبة للعربي ـ هي وجع تاريخي لا يُحتمل، فتحت كل حجر من حجارتها ينام خليفة، ووراء كل باب خشبي من أبوابها.. عينان سوداوان، وفي غرغرة كل نافورة في منازل قرطبة، صوت امرأة تبكي.. على فارسها الذي لم يعد.. السفر إلى الأندلس، سفر في غابة الدمع. وما من مرة ذهبت فيها إلى غرناطة، ونزلت في فندق (الحمراء) إلا ونامت معي دمشق على وسادتي الأندلسية. روائح الياسمين الدمشقي، وعبير الأضاليا، والنارنج، والورد البلدي، كانت تشاركني غرفتي في الفندق.. حتى مواء القطط في حدائق (جنات العريف) في غرناطة.. كان مواءً دمشقياً.. وأنا لا أزال أذكر حتى الآن قصتي الدراماتيكية مع قطة من قطط غرناطة، تركت مئات السائحين الأجانب يتجولون في حدائق (جنات العريف).. واختارتني وحدي.. لتبثني أشجانها، وتغازلني غزلاً عربياً لا يعرفه تاريخ القطط.. كانت تلتصق بي التصاق امرأة عاشقة، وتمر بلسانها على وجهي ورقبتي.. وتفتح أزرار قميصي الصيفي لتنصت إلى ضربات قلبي. هذه القطة من تكون؟. لقد مرت خمس سنين على التقائي بها، ولا أزال مقتنعاً أنها تنحدر من سلالة قطة عربية جميلة، جاءت على نفس المركب الذي حمل طارق بن زياد إلى الساحل الإسباني في القرن السابع (..) تغلغلت إسبانيا في مساماتي، وحروفي، وفواصلي.. وهذه التأثيرات الإسبانية ارتسمت بوضوح في مجموعتي الشعرية (الرسم بالكلمات) 1966 وفي قصيدتي النثرية (مذكرات أندلسية)(22).
أما خطورة هذه القضية فيكمن في هذه النظرة الجاهزة التي يتواصل اجترارها من قبل مجمل الزائرين العرب العابرين حتى اليوم، بحيث إنه قد صار بإمكان أي عربي أن يكتب رحلته إلى الأندلس، بهذا اللغة والنظرة ذاتها، حتى دون أن يغادر بيته.. حيث يتواصل العزف على النغمة ذاتها في كل ما تتم كتابته من قبل هؤلاء.. سواء أكانوا مثقفين أو غيرهم.. بل إن الأمر يتردد صداه حتى في الأدلة والمجلات السياحية العربية بشكل يدعو للسخرية أحياناً، وسننهي ذلك بمقاطع من مقال كتبه السعودي سعيد عبدالله الغامدي(23): حكاية إسبانيا مع زائرها لا تنتهي فكلاهما يبادل الآخر سيلاً من العشق لا تصده حدود ولا تحول دونه حواجز، هكذا وثق العرب الأولون لنا الخيوط بهذه الأرض وها نحن بمشاعرنا نزيد الروابط قوة وإحكاماً (..) بيننا وبينهم شبه كبير. عادات الشعب الإسباني وكيفية ممارسته لطقوس يومه تبدو متشابهة إلى حد كبير مع عاداتنا كعرب ونحسب أن ظلال التأثير العربي قد طالت طبائع هذا الشعب. فالملابس الإسبانية عربية التصاميم وكذا الألوان أيضاً حتى أنك يصعب عليك التعرف على الشخص الإسباني إلا بعد ما يبدأ الحديث معك...
وهكذا تتوالى المبالغات المجانية وغير الصحيحة، فلا يجمع اللبس الإسباني اليوم بالعربي أي شيء على الإطلاق إلا إذا كانا يتشابهان كلاهما بلبس بنطلون الجينز الأمريكي، أما الألوان فهي الألوان ذاتها وبتنوعها في كل ملابس البشر.
ويتابع:.. تبدو وجوه الاتفاق أكثر وأكثر حال زيارتك للريف الإسباني لترى بعين المحب الحياة البسيطة كحياتنا تماماً وترى أيضاً كيف يقطع المزارعون، المسافات للوصول إلى مزارعهم إما سيراً على الأقدام أو على ظهر الحمير..!!..
وهلم جرا من سيل الكلام المجاني الباحث عن أي تهويمات لفرض التشابه والتأثير.. وكأن بقية فلاحي الدنيا وفي دول كالهند وأمريكا اللاتينية وكل العالم لا يذهبون من قراهم إلى حقولهم المجاورة مشياً على الأقدام أو على ظهور الحمير.. وإنما بالطائرات!!!.
هناك من يحاول حتى أن يختلق لأكثر المسائل الإسبانية خصوصية جذراً أو تأثيراً عربياً كمصارعة الثيران مثلاً. وبعضهم يصف وجود الأبناء في بيت الآباء هو من تقاليد الروابط العائلية بينما المشكلة الحقيقية، على الواقع، هي مشكلة اقتصادية تتعلق بالغلاء الفاحش لأثمان الشقق.. وغير ذلك الكثير.. في ضوء هذا، وبحكم معايشتي الطويلة، يمكن الجزم بأن العربي الأمي والمغامر المغربي الذي يعبر المضيق في قوارب الموت ويعيش في الشوارع بشكل غير قانوني، نجده بعد فترة من الزمن يتحدث إسبانية الشارع وأفضل معرفة بعادات الحياة اليومية الإسبانية وقوانينها وتفاصيلها ، بشكل أدق وأكثر بكثير من ذلك الذي يأتي إليها زائراً ومثقفاً مشبعاً بالنظرة المسبقة التقليدية المستقاة من الكتب والتصور الشعبي العربي العام. يقول الدكتور الخليفة في معرض حديثه عن كتاب الرحلات الذين ذكرناهم إن:> معظم الرحالة العرب الذين زاروا إسبانيا لم يكونوا يعرفون اللغة الإسبانية، الأمر الذي حال بينهم وبين الفهم السليم والإدراك العميق للشعب الإسباني ولعاداته وتقاليده وسلوكه (24).
وتخلص المستعربة د.نييبس بعد دراستها لمدونات الرحالة العرب إلى إسبانيا بالقول: وجدنا لديهم إعادة الاكتشاف العاطفي المنفعل في مظاهره الأساسية، أرادوا أن يكون (الأندلس) ماضيهم هم وحدهم وحسب. كلهم ـ باستثناء صدقي ـ قد جاءوا إلى إسبانيا يشدهم شيء واحد.. ألا وهو :الماضي الأندلسي. يتحدثون عن تأثيرات ثقافية أو امتزاج، طبعاً، فقط يوافقون عليه إذا ما كان يصب في اتجاه واحد: التأثير العربي في الإسبانيين وليس العكس أبداً.
كما أنهم يأخذون الأندلس ككل واحد بحيث يصبح هو نفسه سواء أكان أندلس القرن الثالث عشر أو الخامس عشر. إن هؤلاء الرحالة يجعلون من الأندلس حالة أسطورية ومثالية خالية من العيوب لتكون نموذجاً تحتذي به أمتهم.. فكانوا يقدمون ـ في كتاباتهم ـ أندلساً متخيلاً أكثر مما هو واقعي، سهل وأحياناً إلى حد السذاجة.. يقودهم فقط إعجاب لا حدود له بذلك الزمن المثالي. وعليه فإن كتاباتهم المكرسة بكليتها للأندلس، على هذا النحو، تنتهي لتركن في الظل أي اهتمام بما هو إسباني عام أو واقعي، وبما أنهم ليس لديهم معرفة باللغة الإسبانية وآدابها، فإن جل علاقاتهم الثقافية كانت تقتصر على المستعربين. وكان الحل الذي يلجأون إليه في تدوين ما يتعلق بالمعلومات عن الواقع الإسباني الجديد هو المصادر الأجنبية، وغالباً ما تكون فرنسية، والتي عرف عنها نظرتها السلبية، يوافقون عليها ويترجمونها ثم يدونونها، وهكذا تمضي لتشكل بدورها مصدراً للصورة العامة للإنسان الإسباني.
الأخيرة: وهي المتمثلة بالذين جاءوا في الأعوام الخمسة الأخيرة من القرن العشرين ومازالت إقامتهم ممتدة في بدايات القرن الحالي من طلاب ومهاجرين ولاجئين ومثقفين يعرفون اللغة الإسبانية ويعيشون حالها اليومي بكل نواحيه الثقافية والاجتماعية والسياسية وبعضهم تزاوج هناك وقرر البقاء نهائياً.. هؤلاء جاءوا محملين بالنظرة المسبقة ذاتها لكنهم، ومع مرور الوقت، راحوا يتخلصون منها ويتعاملون مع الأمر بواقعية حقيقية وتفاعل حي.. ومن بين ممن يكتبون منهم، مثلاً، العراقيون: عبدالهادي سعدون، محسن الرملي، باهرة محمد، خالد كاكي، نرمين إبراهيم وغيرهم.. حيث نجد صدى النظرة الأولى في كتاباتهم الأولى في إسبانيا ومقارنات مدنها بمدن العراق فيما تنتبه الكتابات اللاحقة إلى الأمر.. إلى حد نجد فيه ردة فعل تكاد صريحة ومعاكسة: >هذه ورقة كتبها مهاجر عربي في إسبانيا كان يشعر دائماً أنه أحد الجنود الذين عبروا مع موسى بن نصير، ونُسي هنا حتى بعد الانسحاب وسقوط غرناطة، لكن الواقع يوقعه بالتناقض: حين يتذكر أنه جاء ليصبح سيداً فأصبح خادماً أو لصاً ينام في عُلب الكارتون. قرفتُ غرناطة وسيل طنين الحنين العربي الزائف إليها (ندعو لأندلس إن حُوصِرَت حلب) وكدتُ تنفيذ قراري بهجرها ودراستي إلى الأبد .
س: إسبانيا (لفردوس المفقود) الأندلس، ما مدى ضغط التاريخ على ذاتك وأنت تجوب شوارعها وتحتك بالمواطنين الإسبان في مغتربك هناك؟.
ج: بالنسبة لي، لا أزعم ما يزعمه البعض من العرب تجاه ضياع الأندلس ( كفردوس مفقود )، صحيح أن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس كانت حضارة راقية ومازالت معالمها شاخصة حتى الآن ولكنني أرى أن نلتفت إلى إشكاليات قضايانا وواقعنا الحالي ونعمل على معالجته وإنمائه أكثر من الحلم بـ (فردوس مفقود).. إنني أتعامل مع الأماكن بموضوعية وواقعية وحنيني جارف تجاه الأماكن العراقية وليس سواها، لأن العراق هو الذي يهمني وليس الأندلس، فالأندلس الآن إسبانيا، وهي تعيش بخير وبحال أفضل من بلداننا العربية.. لذا لا أفهم كيف ينادي البعض باستعادة الأندلس وإنقاذ (الفردوس المفقود)!!.. فلننقذ فلسطين أولاً أو العراق أو الجزائر.. وغيرها
المصدر: مجلة العربي

2 comments :

  1. Don't forget the major influence of Al Amazeegh who populated spain much more than arabs...

    ReplyDelete
  2. Anonymous19 June, 2010

    ______

    طبعا إسبانيا تحب أمثاله ليسهلوا لها إكمال الصفحات الأخيرة من تاريخها المزور.

    ألم يسأل نفسه لمذا تكره إسبانيا الحقبة الإسلامية من تاريخها ؟ هل هناك شعب في العالم ينكر تاريخه إلا إذا كان ربما شعبا مستعمرا لأرض ليست أرضه و لم يكن أبدا طرفا في تاريخ هذه الأرض قبل احتلالها و إبادة الكثير من شعبها ؟

    إن كان يتباهى بإتقانه اللغة القشتالية فاليترجم لنا ما كُتِبَ عن مجازر محاكم التفتيش حتى نفهم أكثر لمذا كما قال هو أغلب الإسبان يكرهون العرب رغما أنه لم يأتي بجديد فالكل يعلم أن الأندلسيون كان أغلبهم من المولدين ثم اختلطوا بالبربر و العرب ليصبحوا أندلسيون ليس عرب. كذلك أنا أستغرب لمذا لم يذكر ما كتب الدكتور علي منتصر الكتاني رحمه الله. فهل الدكتور رحمه الله كذلك لا يفهم القشتالية ؟ كما للرجل دراية كبيرة بهذا الموضوع فقد عاش في تلك البلاد و توفي رحمه الله تعالى بقرطبة. (http://alikettani.info/index.php)
    أنا أعتقد أن في كلامه كثير من التناقص فهو نفسه يقول : < ... إنني أتعامل مع الأماكن بموضوعية وواقعية وحنيني جارف تجاه الأماكن العراقية وليس سواها، لأن العراق هو الذي يهمني وليس الأندلس ... > فأنا مثلا من أصل أندلسي (قلت أندلسي لا عربي) هجّر أجدادي المورسكيين سنة 1610 من تلك البلاد ليس لي الحق كذلك في هذا الحنين الجارف كحنينه للعراق ؟
    و يقول <... لا أفهم كيف ينادي البعض باستعادة الأندلس ...> ألا يعلم أن هؤلاء البعض هم في الحقيقة كثر و هم كذلك إسبان أغلبهم من مقاطعة الأندلس لا يحبّون أن يكونوا إسبانا أمثال بلاس أنفنتي رحمه الله ويريدون الإستقلال منها ؟

    خالد الريشيكو الأندلسي

    ReplyDelete

Copyright © Los Moriscos De Túnez الموريسكيون في تونس | Powered by Blogger

Design by Anders Noren | Blogger Theme by NewBloggerThemes.com